لعلَّ الحروبَ المشتعلة على الأرض، تشغلنا عن النظر للسماء، لرؤية حشود الأسلحة استعداداً لحروب الفضاء.
في 20 ديسمبر (كانون الأول) 2019، أنشأ الرئيس دونالد ترمب قوة الفضاء الأميركية. في حينه، تهكم الكثير من الإعلاميين الديمقراطيين من ذلك. لكن، سرعان ما أيقظهم صاروخ روسي مضاد للأقمار الاصطناعية، أسقط قمراً روسياً آخر في الفضاء.
فلطالما كان من الواضح أن الأمر سيحصل، وكان السؤال متى سيتم تسليح الفضاء؟ وها قد حانت اللحظة.
فقبيل الهجوم الروسي على أوكرانيا، تم تعطيل مزود الإنترنت الفضائي الأوكراني، وتبعه تعطيل مزودات أوروبية.
ثم، اكتملت عناصر حرب الفضاء، في 2023، عندما أسقط صاروخ إسرائيلي Arrow 3 في الفضاء الخارجي، صاروخاً باليستياً إيرانياً أطلقه الحوثيون على ارتفاع 100 ميل. وكانت تلك أول مرة في التاريخ يتم فيها إسقاط صاروخ هجومي في الفضاء، في سياق نزاع مسلح حي. لكنها لن تكون المرة الأخيرة بالتأكيد!
يتحوَّل الفضاء، يوماً بعد يوم، ساحة للصراع الاستراتيجي والاقتصادي. ساحة أشبه بالحروب الاستعمارية في أعالي البحار في القرن السابع عشر. لا تضاريس ولا حواجز يمكن الاختباء خلفها، ولا شيء سرياً إلا شفرة البرامج التي تعمل عليها الأقمار. والآن، إذ تتحكم منظومات الأقمار في عجلات الاقتصادات المتطورة، صار الفضاء ساحة نزاع شرس؛ لأجل الهيمنة الاقتصادية والمعلوماتية والعسكرية، بل والنووية على هذا الكوكب.
ويحتدم الصراع بشكل خاص وتزدحم الأقمار، على ذلك المدار الواقع على ارتفاع 22223 ميلاً من سطح الأرض، وبسرعة 7000 ميل، حيث يمكن للقمر البقاء فوق نقطة ثابتة على الأرض. وتشغل وزارة الدفاع الأميركية فيها ما لا يقل عن 300 قمر اصطناعي، يستخدمها ما لا يقل عن ملياري جهاز GPS في الولايات المتحدة وحدها. رغم ذلك تبدو هذه الخدمات هامشية، بالمقارنة مع أهميتها العسكرية.
فعلى الرغم مما تضمنته المادة الرابعة لمعاهدة الفضاء الخارجي 1967 «فإنه لا يجوز الاحتفاظ بأسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل في الفضاء، وإنه لن يكون هناك أي إسقاط أو مناورات عسكرية على القمر أو أي أجرام سماوية»، لم تتمكن البشرية إلى الآن من التوافق على وسائل عملية لمراقبة تنفيذ ذلك.
وفي لحظات تصاعد التوتر الدولي، نفتقد تماماً أي وسيلة للحد من تسليح الفضاء، أو لحماية البنية التحتية المدارية الحيوية. بل تتردد معلومات من مصادر مختلفة تؤكد وجود عناصر نووية على ظهر أقمار اصطناعية لعدد من الدول. وبذلك لم يعد الفضاء ساحة نظرية للتنافس، بل صار الساحة المقبلة للصراع.
ثمة ثلاث قوى يعتد بها في هذا المجال: أميركا والصين وروسيا. وجميعها تبني قدراتها الفضائية الهجومية. بل أثبتت بوضوح قدراتها في تدمير الأقمار من الأرض. أما القدرات الهجومية للأقمار فتبقى قيد السرية المطلقة.
منذ 1987، أظهرت الولايات المتحدة القدرة على اعتراض الأقمار عبر مقذوفات فضائية. حيث اعترضت المرحلة الثانية من صاروخ أميركي قمراً اصطناعياً أميركياً آخر. وتبعتها أيضاً عدد من الأقمار الصينية.
إضافة إلى ذلك، تعكف الولايات المتحدة على تطوير قدراتها على مسح واكتشاف وتتبع الأقمار الاصطناعية كافة التي تحلّق في الفضاء. ويعتقد أنَّ الصين وروسيا تمتلكان إمكانيات مشابهة. بل تم تجهيز سلسلة الأقمار الاصطناعية الصينية شيجيان بأذرع روبوتية. وبعدها أطلقت روسيا، 2019، ما عُدّ قمراً هجومياً «كوزموس 2542»؛ لأنه أطلق بدوره في 9 ديسمبر قمراً ثانياً، ثم اطلق في يوليو (تموز) 2020، قذيفة هجومية.
ليس هذا إلا غيضاً من فيض، عن مجريات حلبة المصارعة الفضائية. لذلك؛ تؤكد جميع سيناريوهات الخبراء، أنه، كما في الحرب النووية، لن تقتصر أي حرب في الفضاء على السماء، بل سرعان ما تنزل إلى الأرض، لتصير حرباً شاملة. وسيكون من الصعب جداً بالتالي تصور مآلاتها.
وكما هو الأمر في الحرب النووية، يجري تطوير الردع بالدروع الفضائية. وتطور وزارة الدفاع الأميركية 2023 «استراتيجيتها لحماية الأقمار الاصطناعية»، التي تركز على بناء «عمارة مرنة من منظومات الأقمار»، مزودة بالأشعة تحت الحمراء، لتتولى استكشاف عمليات إطلاق، وتتبع الأقمار. وستشمل هذه العمارة، كوكبة ضخمة من مئات الأقمار، بحيث يستحيل عمليا تدميرها أو تعطيلها. لتصبح هذه المنظومة في الفضاء، هي الخيار النووي المجازي للردع الاستراتيجي.
لكن على عكس التقنيات النووية، ليس ثمة وسائل لحظر تطوير أسلحة الفضاء. بل ثمة دول لديها ترساناتها الخاصة، تعدّها خارج أي تفاوض محتمل، مثل كوريا الشمالية.
وهكذا، تتعدَّد وتنفلت أسلحة الانتحار الشامل. فهل نستفيق من حماقة العصبيات ومنطق القوة، لنختار حكمة وحنكة البقاء، البقاء بسلام؟