أردت تشجيعَ ابنتي على استخدام القلم وهي طفلة، فاخترعت لها حكايةَ الشبكة السحرية التي تصطاد الأفكار الطائرة. نعلم جميعاً أنَّ هذه فكرة خيالية، إذ الأفكار تنتمي إلى العالم اللافيزيائي، لا تُرى ولا توزن ولا تشغل حيزاً من فراغ. لكنّها في عالمها ذاك تشغل موقعاً فريداً. إذ يمكن لفكرة علمية أو تكنولوجية أن تلتحقَ بالعالم المادي فتثبت صحتها. ويمكن لأخرى، مثل الوجود المتزامن في عدة أماكن، أن تعجز عن ذلك فتظل مجردَ فكرة، يستخدمها الكتاب والفنانون.
هذا النوع الأخير يمكن تقسيمه إلى صنفين. الأول أفكار الغول. فكرة لا دليل عليها في العالم المادي، لكن البعض يظلُّ مؤمناً بها. مثل العالم السفلي واستحضار الأرواح، أو حتى فكرة أفلاطون عن الجمهورية المثالية.
الصنف الثاني أفكار الأرض المسطَّحة. وهو صنف أفكار وجدنا من العلم المادي دليلاً يفندها ويكذبها. لكن ذلك لم يؤثر على اعتقاد معتنقيها. بعض الناس يعتقد أنَّ الشمسَ تدور حول الأرض. حتى هؤلاء نتسامح معهم، فهم غالباً من أبناء المعارف المحدودة، وربما يستقون مثل هذه الأفكار من تفسيرات دينية مغلوطة تقدم لهم.
لكن ماذا نقول عن أساتذة جامعات، وأعضاء مجالس تشريعية وقادة سياسيين في دول متقدمة، يروّجون لأفكار من دون سند علمي، ثم يبنون عليها قوانينَ تلزم المجتمع إلزاماً بمجافاة المنطق الطبي. حتى لو كانت النتيجة إحباط الفتيات الرياضيات، أو تعريض حياة أفرادٍ لخطر واقعي.
أسمّي هذه الظاهرة عبادة الفكرة، أو عبادة الآيديولوجي إن كانت الفكرة ضمن منظومة. أن تتحوَّلَ علاقتنا بالأفكار الاجتماعية إلى الإيمان بدلاً من الدليل المادي والقياس العلمي. ربما نعتقد أنَّ هذه حماقة عارضة، فصديقنا المهذب يدعمها بحماسٍ، ويخرج عن تهذيبه المعتاد ليسُبَّنا ويتعالَى علينا إن عارضناها. لكن تخيَّلوا لو اعتمد القضاة هذا المنطق الاستنسابي في أحكامهم، أو اعتمد عليه الأطباء في علاجنا، أو اعتمد عليه المهندسون في بناء منازلنا. كارثة تودي بالحياة.
الأهم هنا أنَّ هذه نسخة المثقفين من التفكير الغيبي. والمشكلة أنَّ أهم مجالين في رفاهية المجتمعات، السياسة والاقتصاد، يمنحان عبّاد الآيديولوجي مجالاً أكبر لكي يمارسوا علينا تفكيرهم الميتافيزيقي المتنكر. فتراهم يعيدون تجاربَ اقتصادية فشلت فشلاً ذريعاً، بعد تغيير الغلاف إلى اسم أخلاقي. وكأنَّ الرياضيات، والتفاضل والتكامل، والأرقام، ستنحني وتغير مسارها أو ستنالها البركة، إن كان عنوان السياسة مشحوناً بألفاظ أخلاقية. كأنَّ التضخم سيذوي خجلاً، أو الركود سينتعش، إن سمينا السياسة المؤدية إليهما اسماً إيجابياً. هؤلاء مجرد نسخة مهندمة من أصحاب مقولة: «يرتفع الغلاء حين تتحجب النساء». ولا عجب حين نرى الفريقين في تآلف وتحالف سياسي تحول إلى مأساة في إيران، ولا يزالون يكررّونه في لبنان وغزة، وحاولوا في مصر، ومدَّدوا التجربة إلى دهاليز السياسة الغربية. حين أسميه تحالف التفكير الغيبي لا تستعجبوا. كلهم تنويعات على جوهر واحد: الإيمان بالفكرة أو بالآيديولوجي، بغض النظر عن علاقتها بالعالم المادي.
لكن السؤال، كيف انتشرت عبادة الأفكار بين طبقات المجتمع كلها؟
بداية، شريحة المثقفين والمبدعين من كتّاب وفنانين تنتج ذلك المنتج اللافيزيائي بكثافة. وأفكارهم من نوع لا يمكن اختباره مباشرة. على عكس أصحاب الأفكار الاستثمارية والعلمية. ثم إنَّ موهبة هذه الشريحة الإبداعية تجعلها قادرة على تقديم الفكرة في غلاف خلاب. سواء في لوحة بصرية، أو منتج سينمائي، أو كتابة أدبية.
هذا الشكل الجميل يشتّت العقل عن اختبار مضمون الفكرة اختباراً مجرداً. كلما زاد الفرد في موهبته الإبداعية، وجب الحذر من آرائه السياسية. فهو يختبر أفكاره بمقياس جمالي فتعجبه، ويتعلّق بها تعلُّق «بجماليون» بتمثاله، ويحتد على منتقديها احتداد مؤمن على مشكك. يفسر هذا انتشار ثقافة الإلغاء في التيارات السياسية الحاضنة لمبدعي الثقافة. كما تنتشر ثقافة التكفير في أوساط المتعصبين دينياً. جمال الصياغة، وسطوة الإلغاء، تفسحان الطريق لفكرة حمقاء.
وهنا يتلقفها الجمهور من المتعلمين. وتستمر الدائرة، كلما زاد حبك للآداب والفنون متلقياً، وجب عليك مزيدُ الحذر في التقييم السياسي والاقتصادي لأفكار أصحابها. حيثُ مهمتُك في تقييمها موضوعياً أصعب. يفشل كثيرون منا في هذه المهمة. حبنا للنصوص، أو منتجيها، يُعَطِّل قدرتنا العقلية على تمحيص آرائهم. فتنتشر عبادة الفكرة إلى دائرة أوسع وتصل إلى طبقة أبعد. ولكن السبب يتغير.
في مراحل تحول النشاط الإنتاجي، فإنَّ قطاعاً عريضاً من المواطنين لا يرى في ذلك التطور مصلحة له. إما لأنّه لا يمتلك أدواته، أو لأنّه مرتاح على وضعه. فيكون متعطشاً لأي نخبوي يعزز موقفه. الانتهازيون ومتوسطو الكفاءة من النخبة يجدون في هذا القطاع فرصة أسهل وأسلس إلى الصعود. فيربطون الفكرة حيث يريد الزبون. ويترسخ الاعتقاد.