د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

إسرائيل وعقيدة الفوقية

استمع إلى المقالة

في الذكرى الـ76 لقيام الدولة العبرية، تستمر الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني تحت ذريعة القضاء على «حماس»، والتي يعلم الإسرائيليون قبل غيرهم أنَّها حجة واهية لا تبرر قتل أكثر من 36 ألف إنسان، ناهيك عن عدد الجرحى والخسائر المادية. إنَّ النزعة الاستئصالية لمَن يُحتمل أن يشكل خطراً على الكيان/الدولة العبرية جزءٌ من الأسس التي قامت عليها إسرائيل منذ مايو (أيار) 1948، وما يحدث اليوم في مايو 2024 ليس إلا امتداداً للنهج الذي يتبناه حكام تل أبيب.

لو استرجعنا التاريخ الإسرائيلي، فإنَّه يقوم على نزعة فوقية تجاه الآخر. ليس فقط العربي، بل كل ما هو آخر معادٍ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنَّ أبرز مهمات جهاز الموساد عند تأسيسه كانت تعقّب وقتل الجنود النازيين الذين شاركوا في قتل يهود أوروبا خلال فترة الحرب العالمية الثانية. المسألة هنا تتعدَّى العقاب أو حتى الانتقام لتصل إلى تأسيس سردية خاصة بالشعب الذي تم استقطابه من مختلف أنحاء العالم؛ تتلخص تلك السردية في «سنأخذ حقكم وننتقم ممن ظلمكم أينما كان».

يفسّر البعض هذه العقيدة الإسرائيلية من باب ديني، حيث يرى اليهود تفوقهم على الآخرين. وبغض النظر عن صحة هذه النظرة من عدمها، فإنَّ لهذه العقيدة السياسية دوراً وظيفياً يضمن استمرار الدولة، من خلال بناء الثقة الشعبية في تحصيل «حقوق» أفرادها والانتقام ممن يؤذونهم مهما طال الزمن أو بعدت المسافة. ينطبق هذا على أمورٍ أخرى مثل المقايضة على جثمان الإسرائيلي - بغض النظر عن دينه - بعشرات العرب الأحياء. فاستعادة الجثمان مقابل إطلاق سراح مَن يعتبرونهم «إرهابيين» يوصل رسالة إلى الناخب الإسرائيلي بأنه غالٍ سواء أكان حيّاً أم ميتاً.

الأمر نفسه ينطبق على مسمى الجيش (جيش الدفاع الإسرائيلي). فالإصرار على وضع مفردة «الدفاع» يمهّد لتشريع الأنشطة العسكرية التي يقوم بها الجيش. فحتى الهجوم هو دفاع عن «الوجود». وللتدليل على ذلك، يمكن مراجعة التصريحات التي أدلى بها السياسيون الغربيون من رؤساء وأعضاء برلمانات، بل حتى المرشحون عن الحزب الجمهوري الأميركي استخدموا عبارات مثل «ليكمل نتنياهو ما بدأه، فليس لأحد أن يعترض على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».

هذا الموقف الغربي، والأميركي خصوصاً، تم العمل عليه لسنوات من خلال تعامل اللوبي الصهيوني مع المؤسسات السياسية والإعلامية ودراسة أدبياتها وقوانينها حتى يصل لأكبر قدر من المكتسبات. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تم توظيف الهولوكوست سياسياً لصالح الدولة الإسرائيلية. وكانت البداية مع استخدام القوانين الغربية لاستصدار قانون «تجريم معاداة السامية»، الذي يختص بالنظر في الشكاوى التي يتقدم بها اليهود ضد ما يعتقدون بأنها إساءة لهم بناءً على هويتهم الإثنية أو الدينية. تكمن خطورة هذا النوع من القوانين في أنه يعطي لليهود حصانة خاصة، فهم محميون بقانون خاص بهم وليسوا مجرد مشمولين بقوانين تجريم العنصريات العرقية أو الدينية. ونستذكر في هذا الصدد أنه حتى السود ليسوا محميين بقانون «تجريم معاداة ذوي البشرة السوداء».

نستخلص مما سبق أموراً عدة، أهمها: العقيدة الفوقية التي يتبناها الإسرائيليون، والتي تقوم على الاستحقاق العالي مقابل الخصم. هذا التوجه يعطي الحق لإسرائيل لتقوم بما تراه مناسباً من أجل «الدفاع عن النفس»؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك: الهجوم على قناة السويس في 1956، وهجمات يونيو (يونيو) 1967، واجتياح بيروت 1972، والقائمة تطول. فالأمر يتعدى التعامل مع الشعب الفلسطيني، إلى الاعتداء على دول الجوار وانتهاك سيادتها.

رغم كل التحديات التي تواجه الدول العربية في مساعيها لحل الإشكالية مع إسرائيل، فإنَّ الطرف الإسرائيلي يظل متعنتاً ويصر على الحصول على المكتسبات دون منازع. ولعلَّ أكبر طموحاته اليوم أن يصل إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية في سبيل الحصول على مكتسب سياسي واقتصادي سيكون - في حال حدوثه - النقلة النوعية الأكبر منذ قيام الحكم الإسرائيلي في 1948. يصطدم ذلك الحلم الإسرائيلي بالاستراتيجية السعودية التي توازن بين الأخلاق والواقعية. فأخلاقيات المملكة لا تتنازل عن الحق الفلسطيني، بينما واقعيتها تقرّ بأنَّ وجود دولة إسرائيل في المنطقة أمر واقع. وعليه، فإنَّ الموقفَ السعودي الذي يقود تكتلاً عربياً وإسلامياً كبيراً ثابتٌ منذ مبادرة الأمير فهد 1981 وحتى اليوم دون أي تغيير جذري.

إن الفوقية التي تتبناها إسرائيل في التعامل مع الآخر لن تُنتج إلا مزيداً من الدمار والقتل، وليس أمامها من حل «واقعي» إلا القبول بالمبادرة السعودية. أما بالنسبة للخيار الآخر، فالبقاء كجسم غريب سياسياً وشعبياً في المنطقة وترك الصراع مفتوحاً وتوريثه لعشرات الأجيال القادمة التي لا تعترف بالنظرة الفوقية التي تتبناها تل أبيب.