د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

حتمية التاريخ والدول التي ستلحق بالكويت

استمع إلى المقالة

منذ ما يناهز أربع سنوات وفي أول مقالٍ منشور لي بهذه الجريدة بعنوان «هل تمثل سياسات محمد بن سلمان نهاية التاريخ؟» أعلنتُ فيه أن التاريخ قد انتهى في هذا العهد السعودي الجديد، وأن صانع القرار قد دفع حركة التاريخ إلى غايته القصوى. وكان مُرادُ المعنى العام في هذا التصور الفلسفي هو أن العقل المطلق المُنظِّم لحتمية حركة التاريخ يقتضي أن تُنفذ إرادة سياسية واعية مفارقة للعادة الشرط الموضوعي لهذه الحتمية والمتمثل في حسم العلاقة الجدلية بين المكون الديني والسياسي لمصلحة الأخير. ويكون الشكل النموذجي لعملية إنهاء هذه التناقضات السياسية والاجتماعية توحيد السيف الزمني والديني في الشخصية الاعتبارية للملك حصراً بوصفه المفسر الوحيد لمتطلبات الإرادة العامة، والشارح المنفرد لمعنى المعايير الأخلاقية التي تضبط مسار العمليات الاجتماعية والشأن العام.

وكما أنهت الفلسفة الهيغلية تناقضات الصراع الدموي بإقامة الدولة البروسية بعد أن جمع الملك السيف والصولجان بيديه، فقد كانت نهاية التاريخ في العهد السعودي الجديد القضاء على المكون النظري لمفهوم «الحاكمية السياسية» للحركات الإسلامية التي كانت تُروجُ من خلالها لمنطق تبعية السلطان السياسي لإرادة الجماعات الدينية باعتبارهم المرجعية الكلية والمصدر النهائي لإضفاء الشرعية على القرارات السياسية والأحكام الأخلاقية. وبهذا الوعي السياسي والإرادة الحازمة أنهى صانع القرار السعودي جدلية ثلاثة عقود منصرمة من صيرورة تناقضات التاريخ بخطاب وسلوك رسمي تشير كل مدلولاته الضمنية إلى أن مرجعية الحكم السياسي تعود حصراً إلى الإرادة المنفردة للسلطان الزمني، وليس للمرشد العام، أو القيادات الدينية، أو أي مؤسسة وعظية وأخلاقية أخرى كانت توظّف ثوابت المقدس والمطلق للحكم على متغيرات علاقات دولية ومنافع محلية في غاية التعقيد تُدار بمنطق المصالح المتغيرة والنسبية. ولم تحسم جدلية التركيبة المزدوجة للثنائيات التاريخية المتناقضة التي يَتضاد فيها الثابت والمتغير، والمطلق والنسبي، والخطاب الديني والسياسي إلا بإرادة سياسية واعية وحازمة. ولأن السعودية دولة مركزية، ومهبط الإيحاء السياسي ومستقر الوحي الديني لكل العالم الإسلامي فقد استشرفتُ بما نصه بالمقال بأن «عربة التاريخ التي انطلقت بعجلات سعودية لن تتوقف ولن تنتهي، إلا في آخر محطة للتاريخ في آخر بلد عربي وإسلامي».

فغاية التاريخ واعية ومقصودة في حركتها النهائية نحو التشكل على صورة تنظيمات سياسية ينفرد فيها السلطان السياسي بضمان الأمن والاستقرار الاجتماعي، وتنظيم الحقوق والحريات، وتمثيل الكل الاجتماعي في كيانه الاعتباري الأحادي والمنفرد. ويكون ذلك من خلال توحيد الذات الملكية بموضوعات ومتطلبات الإرادة الشعبية، واستئثار الحاكم بدمج الكلمات بالسيف، واللسان بالسنان، دون مشاركة أو منازعة أو مغالبة من أي رموز دينية، أو شخصيات سياسية اعتبارية، أو تجمعات عقائدية، أو نيابية تتدثر في كثير من الأحيان تحت عباءة خطاب حداثي مراوغ وبراغماتي يوظف في مضامينه أدوات ومفاهيم ليبرالية ترتكز على شعارات الحقوق والحريات المدنية التي تتناقض مع النسق العقائدي والفكري لتلك الجماعات الوظيفية. وإن كان أفق التعايش السلمي بين المكون السياسي والديني قد تم احتواؤه في الإرادة الملكية في السعودية، إلا أن تضاد وتناقضات هذين المكونين لم يحسما في كثير من دول «الربيع العربي» والعالم الإسلامي دون دفع تكلفة باهظة كان ثمنها إزهاق الكثير من الأرواح وإراقة سيل متدفق من الدماء في سوريا واليمن ومصر والسودان والجزائر وليبيا والعراق وأفغانستان. ومن هنا فإن إعادة تمركز السلطتين الروحية والزمنية حول الذات الملكية في السعودية دون الانزلاق إلى هاوية هذه الصراعات الدموية كانت بمثابة عربة التاريخ التي انطلقت من السعودية في مشهد مهيب من التأثير السياسي، وإشعاعات القوة الناعمة نحو محيطها العربي والإسلامي.

وبلا شك كانت الكويت من أهم هذه المحطات التي توقفت عندها عربة إشعاع التأثير السياسي التي انطلقت من المملكة، وربما ستعقبها دول أخرى كقطر والأردن. فهذه الدول ما زالت تعيش هاجس إرهاصات متأخرة لتناقضات الوعي التاريخي بين ثنائيات رغبة الإرادة السياسية في التحرر من قيود شروط الحتمية الموضوعية للمصالح المتغيرة التي يفرضها قواعد النظام الدولي، والاستجابة لأفق المرونة الاجتماعية التي يتطلبها تدفق الاستثمار الأجنبي والسياحة الخارجية، وتحقيق متطلبات الأمن والاستقرار الداخلي، وبين إرادة الجماعات الثيوقراطية التي تحاول أن تفرض وعياً طوباوياً ومبادئ ثابتة تعوق من هامش مناورات السياسي في استجلاب مصلحة، أو دفع مفسدة، وبما يفضي إلى زعزعة السلم والأمن الوطني. ولعل من أبرز التجليات الواضحة لثنائيات هذا الصراع غير المحسوم في هذه الدول ضغوط الخطاب الديني على صانع القرار من أجل الدخول في معارك دولية معلوم يقيناً مآلاتها ونتائجها التدميرية على وجود الدولة وبقائها، وعلى مصالحها القومية العليا، أو محاولات إرغام السياسي على أن يكون تابعاً ومنقاداً ومنفذاً لإرادة مفسري الحاكمية الإلهية، وأن تستقر قراراته السياسية في مرتبة دنيا تعلوها إرادة منتجي خطاب الوعي الديني والكهنوتي.

وليس من المستبعد أن تستمر رحلة حركة التاريخ في المضي قُدماً نحو تقديم مصلحة السياسي على الديني-الكهنوتي ليفكك العلاقة الجدلية داخل المجتمعات الغربية ذاتها. فهناك أطياف متنوعة من المعارضة الإسلامية التي يتناقض خطابها الفكري ونسقها العقائدي مع بنية التشريعات والقوانين العلمانية ومع منظومة الحياة الدنيوية المتحررة للمجتمعات الغربية التي يعيشون فيها. وبدلاً من أن يكون خيارهم في الحياة الوجود في مجتمعات إسلامية كأفغانستان التي تتصالح فيها مطالب إدراكهم الذاتي مع سياساتها وتشريعاتها وفضاء مجالها الاجتماعي، آثروا الحياة في مجتمعات هي من منظورهم الفكري كفرية وعلمانية ولا تتسق مع تركيبة نماذجهم الذهنية وتصوراتهم الخاصة عن الشكل المثالي للحياة والوجود الاجتماعي. وتناقضات هذا الوعي الشقي المسكون بثنائيات متصارعة بين العقيدة والسلوك، وعالم المُثل ودنيا الواقع سينتهي حتماً بتكييف وعي هذه الأقليات مع منطق شروط وضرورات العلمانية الغربية، أو إعادة إنتاج سلوك أكثر تقبّلاً لحتمية إرادة التاريخ المتنافرة مع نسق تصوراتهم الماضوية، أو لربما ستعيد هذه الدول الغربية ترتيبات أولويات مصالحها السياسية والاجتماعية التي من المحتمل أن تفضي إلى أن تكون أقليات هذا الوعي الشقي والمزدوج خارج التاريخ وإحدى ضحاياها.

فوعي التاريخ في أوروبا لم ينعكس على ذاته في صورة العقل المطلق المتجسد بالدولة الوستفالية/الوطنية إلا بعد تحرر الملك من تبعية الكنيسة، وبعد أن أنهى التاريخ آلية توظيف الدين أداة استغلال للطبقة الكهنوتية التي كانت تهدف من خلالها إلى تكديس الثروات، وتعظيم المصالح الخاصة، وتقييد سلطات الملك في علاقاته الخارجية، وضبط عقده الاجتماعي مع شعبه. ومن أجل الوصول إلى هذا المستوى من الوعي التاريخي خاض ملوك وأباطرة أوروبا صراعاً دموياً امتد لألف سنة ضد «حاكمية الكنيسة» ومفسري الإرادة الإلهية، انتهت بالتدمير المنهجي والواقعي لنظرية ازدواجية السلطة والسيفين، وإعادة دمج سيف السلطة الدينية بسيف الحاكم الزمني، واسترجاع وحدة رأس الحاكم السياسي للدولة مع جسده الذي كان مستلباً وأسيراً طيلة 10 قرون داخل قضبان وعي رجال الدين.

وختاماً، لقد حسم وعي إرادة التاريخ في القرون الوسطى بأوروبا العلاقة الجدلية بين السياسي والديني بتفوق الزمني على الكنسي، وكانت صيغة الحكم العلماني بمثابة تتويج للمراحل الأخيرة في صيرورة حركة التاريخ التي فضَّت الاشتباك بين المقدس والنسبي، والعام والخاص، من خلال تشكيل إدارة عامة محايدة في الصراع السياسي والاجتماعي تكفل بموجبها حقوق المواطنة في تكافؤ الفرص بين الجميع، والمساواة أمام القانون. وعقل التاريخ الموضوعي الذي أنهى تناقضات الوعي السياسي الأوروبي في القرون الوسطى بأسبقية الدولة على الجماعة، وأولوية حقوق «الملك المتناهي» على «الملك اللامتناهي» للكنيسة وفق التعبير الهوبزي، كان قد اصطفى قيادات العهد السعودي الجديد لتنفيذ إرادته المطلقة بحصر مرجعية الولاء والانتماء لإرادة سياسية واحدة، ومنفردة، تعلو فوق كل القوى، والجماعات، والهويات، الوسيطة والفرعية. وهو نموذج الترتيبات السياسية والشرط الموضوعي ذو الدلالة والمعنى الذي سَتُفضِي حتمية حركة التاريخ إلى إعادة إنتاجه في كل أنماطه وتحولاته داخل الكويت وفي غيرها من الدول، بعد أن انطلقت مركبتها من السعودية.