د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الأرقام حجر الزاوية في قراراتنا

استمع إلى المقالة

عندما قررت بريطانيا الاكتفاء بمنح السائح الخليجي تأشيرة دخول (فيزا) فورية لا تتجاوز قيمتها عشرة جنيهات اعتباراً من فبراير (شباط) 2024، لم تفعله «لسواد عيوننا» كما يبدو. ولكنها بلا شك قد درست ما ينفقه المواطن الخليجي في الزيارات، فوجدت أن الفيزا يجب ألّا تشكل عائقاً أبداً أمام طوفان الإنفاق على التراب البريطاني. الأرقام تقول إن الأمة العربية وفي مقدمتهم الخليجيون ومعهم الصينيون هم أكثر من ينفقون في المملكة المتحدة.

أرقامهم تكشف أن شعوب العالم تنفق نحو 30 مليار جنيه إسترليني سنوياً. وهو مبلغ هائل يذهب ربعه لأسواق التجزئة. وصارت بريطانيا تخسر نسبة كبيرة مما ينفقه الأكثر صرفاً من زوارها بعد قرار حكومتها التراجع عن استرجاع الضريبة المضافة (tax – free)، بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي، حسب «الفاينانشيال تايمز». فقد هوت أرقام السياح بشدة منذ ذلك الحين مقارنةً بإقبال السياح على شقيقاتها الأوروبيات التي شهدت اقتصاداتها انتعاشة ملحوظة.

مزايا الأرقام أنها تدعم متخذ القرار وتقلل تحيزات الشخصية والعشوائية. وتحسّن الأرقام كفاءة الأداء، وتقوي التخطيط وتبلور التنبؤ، ويمكن من خلالها قياس الأثر ومدى تقدمنا وتراجعنا. وكم من رقم حسم نقاشاً عقيماً. من دون الأرقام قد ندور في حلقة مفرغة.

هذا لا يعني أن كل قرار لا بد أن يُبنى على رقم، فمن بدهيات اتخاذ القرارات أن يشوبها شيء من العاطفة، لإرضاء عيون العملاء أو النزلاء، ويخالط القرارات شيء من الحدس (Intuition)، والمنطق، والخبرة، والمرونة. بعض القرارات تستند إلى أرقام قديمة لكنها يمكن أن تشكل وزناً نسبياً بسيطاً في معادلة القرار. في الاستثمار مثلاً نعطي وزناً نسبياً أكبر عندما نقارن تقييم أداء شركات مطابقة لمواصفات الشركة التي نعتزم الاستحواذ عليها، ووزناً أقل للشركات لا تتطابق معها من حيث الحجم والأنشطة وغيرها.

وقوة الأرقام مراتب؛ فبعضها يحتاج إلى أرقام أخرى أو معلومات لتكوين تحليل أعمق، وبعضها يكشف تصاعدية الإقبال على أمر معين أو عزوف مثير للقلق. ويمكن بفضل التكنولوجيا الرقمية -كملامح الوجه، وبطاقات الفيزا، وماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نرتاد من أماكن- الكشف عن تفاصيل دقيقة في سلوكياتنا، يمكن أن تشكِّل قيمة مادية (وتجارية) ومعنوية مذهلة لمتخذ القرار.

يقال إن الأرقام لا تكذب، لكن ما قد يكذب هو مستخدم تلك الأرقام في غير موضوعها أو بطريقة مجتزأة ليمرر قرارات تخدم مصالحه الضيقة. مَن يحب وطنه يفتح آفاق الشفافية الرقمية ويجعلها متاحة للجميع. فمن خلال الأرقام يمكن أن نبني قرارات راجحة وبعيدة عن المزاجية والتخبط.