التداول السلمي الوحيد للسلطة في ليبيا المنكوبة بصراعات سياسية هو بين المبعوثين الدوليين فقط؛ حيث وصل الآن إلى ليبيا المبعوث التاسع بعد استقالة عبد الله باتيلي من دون أي صراع بين المبعوثين، بينما الكيانات السياسية التي أنتجتها حوارات ومفاوضات البعثة الدولية لم تسلّم السلطة في ليبيا منذ يومها الأول إلى اليوم، بل تتمدد هي نفسها تحت أسماء جديدة. فالمؤتمر الوطني (أول برلمان منتخب) بقي في السلطة منذ 2012 إلى يومنا هذا، بعد تعديل الاسم فقط إلى مجلس الدولة ولم يسلّم أعضاؤه السلطة للبرلمان (الثاني)، إذ بقي الجسمان موازيين لبعضهما حتى اليوم، رغم انتهاء المدد القانونية والتشريعية والشرعية لهما.
اختزال أزمة ليبيا في شخصية المبعوث الدولي، يؤكد أن الخلل في الأزمة، أو حتى في السياسيين الليبيين، ولكن الوكلاء الدوليين يفضّلون التخلص من المبعوث الدولي لأنه مجرد موظف والإبقاء على بيادق الأزمة في ليبيا من السياسيين المحليين لتنفيذ أجندة الخارج، ففي ليبيا أزمة خلاف دولي تنفذها أيادٍ داخلية، للأسف فقد ذهب باتيلي وقبله الكثير وبقيت ذات الوجوه المتسببة في الأزمة، فالأزمة «الليبية» التوصيف الصحيح لها هو أنها أزمة دولية في ليبيا، وتغييب الدولة في ليبيا هو لضمان التدخلات الأجنبية فيها.
البعثة الدولية في ليبيا لم تنجح في إنتاج حل منذ طارق متري وهو أول مبعوث دولي لـ«الدعم»، وكانت تسير في «مسالك وعرة» كما وصفها في مذكراته عن ليبيا خلال فترة رئاسته للبعثة الدولية للدعم. فالبعثة الدولية منذ تولاها طارق متري، مروراً بالإسباني برناردينو ليون، والألماني كوبلر، واللبناني غسان سلامة، والمستشارة ستيفاني ويليامز، وانتهاء بالسنغالي عبد الله باتيلي، كانت آلية عملها محل انتقاد وشك وحتى اتهام، وليس جنسيات المبعوثين، رغم أن اختيار المبعوثين جاء وفق هذه الجنسيات من حيث إنهم بعيدون عن الوساطة السياسية.
مواقف كثيرة تبنتها البعثة نتيجة التوجيه الخاطئ وفق تقارير تتهمها بالمنحازة؛ حيث تبنت البعثة اختيار ممثلي لجنة الحوار التي ما غاب عنها محب أو صديق لها، بل لم يوجد قيادي إخواني كبير إلا وتمت تسميته عضواً مستقلاً ضمن لجنة الحوار في استخفاف واضح وعبث، وذلك في فترة رئاسة الإسباني برناردينو ليون، مما يعكس حالة الخلل في عمل البعثة الدولية التي فقط حافظت على التداول السلمي بين مبعوثيها من دون تحقيق أدنى درجات التوافق بين الفرقاء في ليبيا، الذي يعد الوظيفة الأساسية للمبعوثين التسعة حتى الآن، فالأزمة في ليبيا، الليبيون وحدهم هم الأولى بالتفاهم فيما بينهم، ويبقى دور الأمم المتحدة مجرد وسيط، شرط أن تبقى وسيطاً نزيهاً والابتعاد عن شخصيات جدلية.
فنصيحة جورج واشنطن لم تجد آذاناً صاغية، إذ لم يلتزم أحفاده اليوم مبدأ عدم التدخل في الشأن الخارجي للدول، بدءاً من رسالة الوداع التي وجهها بصفته رئيساً للولايات المتحدة الأميركية إلى الشعب الأميركي، وذلك بمناسبة انتهاء رئاسته، التي جاء فيها: «لا تتدخلوا في الشؤون الأوروبية، وحاذروا من أن تنساقوا إلى الاشتراك في المنازعات بين الدول، وأبقوا بعيدين».
مفهوم التدخل الدولي يختلف ويتباين بين ما يسمى Intervention بمعنى تسوية نزاع أو التدخل بالقوة أو التهديد بالقوة، وكلمة «Interference» تستخدم للدلالة على التدخل العادي المحدود بين طرفين للتسوية بينهما، ولهذا عرف التدخل بأنه «سلوك يهدف إلى قلب الوضع القائم في دولة ما، بغرض تغيير الأوضاع القائمة فيها أو المحافظة عليها أو إرغامها على القيام بعمل معين أو الامتناع عنه».
فليبيا ضحية تدخلات خارجية بمفاهيم مختلفة لا يغيب عنها نهب ثرواتها وتدمير قدراتها العسكرية التي كلفت مليارات الدولارات والأطنان من الأسلحة والآلاف من الدبابات والمدافع الثقيلة في عهد القذافي، بالتدمير المباشر كتدخل حلف «الناتو» بإسقاط الدولة الليبية وتمكين جماعة الإسلام السياسي، وخلط مفاهيم وتفسير لقرارات دولية، منذ تفسير قرار حماية المدنيين عام 2011، الذي سمح بإسقاط آلاف الأطنان من القنابل على مؤسسات الدولة المختلفة، بل وحتى مطارات وموانئ مدنية وشبكات كهرباء واتصالات؛ مما تسبب في إسقاط الدولة، وليس فقط إسقاط نظام يوصف بـ«الطاغية» لينتج جماعة من الطغاة والديكتاتوريين الجدد تغلبوا على القذافي ونظامه، بل أصبح عهد القذافي أكثر رحمة ورغد عيش لليبيين بعد أن جربوا الطغاة الجدد.
التدخلات الخارجية في ليبيا سببها الملف الاقتصادي الذي ترغب الدول المتدخلة فيها ضمان حصتها في العقود والصفقات، وأيضاً الملف الأمني، خاصة دول الجوار الليبي التي ترى في ليبيا عمق الأمن القومي الذي يهدد كيانها وسلامتها، ولهذا تجد لنفسها مبرر التدخل في الصراع في ليبيا، وكذلك ملف تدفق المهاجرين نحو أوروبا هو الآخر سبب مهم للتدخل الخارجي من قِبل دول الاتحاد الأوروبي التي تتنازع على الكعكة الليبية من النفط والغاز بين إيطاليا وفرنسا وبريطانيا الممثلة لشركات «إيني» وتوتال» و«برتش بتروليوم»، ولهذا تنوعت التدخلات بين الوجود العسكري المباشر أو الاستخباراتي أو عبر وكلاء سياسات الترحيل والغرق في الفرعيات الخلافية. وخير دليل على الرغبة الدولية في إطالة عمر الأزمة الليبية اعتبار المفكر شارل روسو أن التدخل الخارجي «عبارة عن قيام دولة بتصرف، بمقتضاه تتدخل الدولة في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى، بغرض إجبارها على تنفيذ أو عدم تنفيذ عمل ما، وتحاول فرض إرادتها بممارسة الضغط بمختلف الأشكال، كالضغط السياسي والاقتصادي والنفسي والعسكري».
الأزمة الدولية في ليبيا لم ينفع فيها كثرة المؤتمرات: باريس 1 و2، ولا برلين بـ3 أجزاء، ولا حتى الصخيرات، ولا بوزنيقة، ولا جنيف، فجميعها لم تنتج حلاً ولا تداولاً سلمياً لسلطة موحدة والسبب التدخل الخارجي المستمر والمهيمن.
الحل أن ترفعوا أيديكم عن ليبيا واتركوا الليبيين يتفاهمون فيما بينهم، فتدخلكم جلب المندوب التاسع في 10 سنوات من دون إنتاج حل قابل للعيش.