سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

إسرائيل بين الاحتضان والتطويق

استمع إلى المقالة

ليلة المسيّرات والصواريخ الإيرانية على إسرائيل، وما رافقها من مواكبة أميركية وغربية في الدفاع عن إسرائيل، أظهرت وقائع وحقائق غير مسبوقة تخطت استثنائية الهجوم نفسه. الحقيقة الأولى هي أن الاصطفاف الأميركي والغربي إلى جانب إسرائيل لم يكن لحمايتها فقط كما كان يحدث آنفاً، إنما أيضاً تحسساً، لكي لا نقول تخوفاً، من تهديد الخصم هذه المرة وهو إيران ومن خلفها وكلاؤها في دول المنطقة، فإلى جانب خوف الغرب من امتلاك إيران أسلحة نووية، انزاحت الغمامة من أمام عينيه ليرى مصدر تهديد إيرانياً أكبر متعدد الوجوه: دورها في زعزعة أمن المنطقة وتفكيك دولها، كما التدخل في شؤون دول الخليج العربي بهدف إنشاء نظام إقليمي أمني جديد تكون فيه قاعدته المركزية، فضلاً عن إقرار دول الإقليم بنفوذها السياسي والعسكري. يضاف إلى ذلك دورها في زعزعة الأمن الدولي إن كان عبر مساندة روسيا في حربها ضد أوكرانيا أو تهديد حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر أو توسيع نفوذها في شرق أفريقيا وآسيا الوسطى.

حرب غزة المندلعة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أبرزت أكثر الدور الإيراني المباشر فيما يجري من أحداث في المنطقة خصوصاً لجهة أن ولاء مختلف أطراف وأطياف ما يسمى «المقاومة ضد إسرائيل» لها وليس لقضايا أوطانهم وتحريرها، وأنها تسيّرهم وفقاً لأجندتها.

الحقيقة الثانية هي خروج حرب الظل المشتعلة في الإقليم منذ سنوات بين إيران وحلفائها، وإسرائيل والغرب عامة والولايات المتحدة خاصة وحلفائها إلى العلن. لسنوات وإسرائيل تنفذ ضربات في سوريا ضد إيران وحلفائها وغارات واغتيالات داخل إيران نفسها، وواصلت ذلك طوال حملتها العسكرية المستمرة منذ 6 أشهر ضد «حماس» في غزة. لكن هجوم الأول من أبريل (نيسان) برز بسبب استهدافه مقراً دبلوماسياً لا تطوله تقليدياً الأعمال العدائية، وشكَّل إعلان حرب واضحاً لم يكن ممكناً لإيران إلا الرد عليه مباشرة.

الحقيقة الثالثة هي أن إيران تعي تماماً قوة الردع الأميركية الموجودة في المنطقة وحقيقة الدعم الغربي لأمن إسرائيل الذي لم يترك مجالاً لتعريضها لأقل قدر من الخسائر أو الأضرار. الرد الإيراني على قصف القنصلية في دمشق جاء مدروساً ومتحفظاً وقابلاً للاحتواء، ولم يخطئ من وصفه بأنه «حفظ لماء الوجه»، إذ جرى الإعلان عنه فخسر عنصر المفاجأة، والذخائر المستخدمة، على الرغم من كثافتها، كانت قابلة للاعتراض بسبب الوقت الذي تحتاجه لبلوغ أهدافها. لا شك أن إيران تمتلك أسلحة أكثر فتكاً وقوة من تلك المستعملة لكنها لم تستخدمها تجنباً لإشعال نار حرب واسعة غير مرغوبة من الأطراف كافة، لا سيما منها ومن الولايات المتحدة. ولعل ذلك وراء عدم اعتماد إيران هذه المرة على وكلائها المحليين لتنفيذ انتقامها.

الحقيقة الرابعة هي أن ليلة المسيرات كما حرب غزة أظهرت الفجوة بين قدرات إيران العسكرية والتكنولوجية وقدرات إسرائيل التكنولوجية الحديثة والمتطورة. نجحت إسرائيل بنسبة 99 في المائة في اعتراض المسيّرات والصواريخ الإيرانية من خلال أنظمتها الدفاعية المتعددة الطبقات، وجرى اعتراض جزء كبير من التهديدات خارج الأراضي الإسرائيلية، في سماء الأردن والعراق، حيث نفذت الولايات المتحدة معظم العمليات.

الحقيقة الخامسة والأهم، هي إدراك الولايات المتحدة أن الحرب الدائرة في المنطقة هي حرب بين متطرفين اثنين لا بد من ردعهما معاً: الأول هو إيران، والثاني هي الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشددة. فإذا كانت واشنطن وحلفاؤها في الغرب هبوا لحماية إسرائيل، فلن يكون هذا الاحتضان العسكري من دون ثمن سياسي تدفعه الدولة العبرية، وتبين ذلك من حجم وطبيعة الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني على قصف القنصلية في دمشق والذي اقتصر على غارات جوية على أصفهان. وسيتبين أيضاً من تطورات الحرب في غزة والميني حرب في جنوب لبنان. سيصعب على بنيامين نتنياهو خصوصاً وعلى الحكومة الإسرائيلية عموماً معارضة ومناكفة الحلفاء في هذه المرحلة على الرغم من كل الغطرسة الإسرائيلية، كما بات واضحاً أن الرئيس الأميركي يمسك العصا من الوسط، فهو يريد من جهة حماية إسرائيل، ويسعى من جهة أخرى إلى منعها من تسعير النزاع مع إيران. المرجح ألا تخرج تداعيات الرد الإيراني على قصف القنصلية في دمشق وما رافقه والرد الإسرائيلي بالغارات على أصفهان عن إطار عدم الانجرار إلى الحرب الواسعة والعودة إلى ستاتيكو قبل عملية القنصلية، ومتابعة مفاوضات حرب غزة وجنوب لبنان.

يبقى أن الرد الإيراني على الرغم من أنه جاء مدروساً، اقتضى تدخلاً فعالاً من الحلفاء، وشكَّل نواة تحالف بين أطرافه الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والأردنيين، ولم تكن أطراف عربية أخرى بعيدة عنه. نواة التحالف هذه قد تفتح الباب أمام توسيعه عربياً في المستقبل إذا حُلت العقدة الإسرائيلية المزدوجة: أولاهما حجم الأخطاء المرتكبة والتي تظهر فجّة في إدارة حرب غزة، والممارسات الصلفة في الضفة الغربية، وثانيتهما انعدام الرؤية السياسية، والاقتصار على البعد الأمني في مقاربة كل ما يخص الشأن الفلسطيني.

اليوم، يقف العالم برمته والمنطقة العربية خصوصاً على مفترق طرق، إذ ما يجري اليوم هو إعادة تشكيل للتوازنات الدولية والإقليمية، والمشهد الجيوسياسي الأوسع ينبئ بتهافت التطرف السياسي والديني من وعي الغرب لخطأ ملاطفته الإسلام السياسي، وسقوط الجماعات السنية المتطرفة، والوقوف بوجه روسيا - بوتين في حربها ضد أوكرانيا ومواجهة أوروبا لليمين الشعبوي إلى محاصرة التطرف الشيعي المتمثل بإيران ووكلائها، وكبح التطرف اليهودي في إسرائيل. نجاعة التحالف الذي واجه الرد الإيراني على إسرائيل من جهة، ويطوّق إسرائيل المستشرسة من جهة أخرى، لا بد أن يتوسع عربياً وبمبادرة عربية وفق رؤية سياسية أكثر منها أمنية، تلخص كل الحراك الدبلوماسي منذ 6 أشهر، وتضغط لتسوية الدولتين وتوازياً لتحصين الأمن الإقليمي عبر التعاون الاستراتيجي بين الشركاء، والأهم تعكس خيار الاعتدال الذي اتخذته معظم الدول العربية وعلى رأسهم السعودية ومصر والأردن.

من دون هذا التحالف ستواصل إيران ومعها رموز الاستبداد والتطرف بزرع الاضطراب والنزاع في أرجاء المنطقة وزرع العوائق أمام السلام والتنمية والتعاون.