يخيَّل للأجانب عن بريطانيا المتابعين لتطورات سياستها الداخلية أن رئيس حكومتها، ريشي سوناك، إما سيئ الحظ أو يتعمد البحث عن المتاعب.
فرغم المشاكل والعثرات التي تتعرض لها حكومة المحافظين بزعامته، وانخفاض شعبيتهم في استطلاعات الرأي، تجده يثير زوبعة جديدة في الوسائل الصحافية، وتلقى هجوماً من المعارضة، بإعلانه عن قائمة جديدة من التشريفات، مساء الخميس، مع بداية إجازة موسم عيد الفصح؛ وتضمنها أسماء عرضته للاتهام بالمحسوبية وتفضيل المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية.
قائمة الأسماء يقدمها رئيس الحكومة، وزعماء الأحزاب إلى المجلس الاستشاري الملكي الخاص the Privy Council الذي يرفعها بتوصية إلى الملك لينعم بالألقاب على أشخاص قدموا خدمات جليلة في مجالات تخصصهم أو في الأعمال الخيرية. وهي ألقاب أغلبها فارس «سير Sir» والمقابل النسائي لها «Dame ديم»، وتتبعها حروف مثل OBE أو MBE ومقابلها بالعربية «فارس» أو (قائد) في الإمبراطورية البريطانية. مثل جراح القلوب المصري مجدي يعقوب (لخدماته في مجال الطب وعلاج المحتاجين والأعمال الخيرية)، ولقب GCVO (حامل وسام عظيم الفرسان الملكية الفيكتوري) لعميد السلك الدبلوماسي سابقاً السفير الكويتي خالد الدويسان (لخدماته في مجال الدبلوماسية وتحسين العلاقات الدولية وحوار الأديان).
قوائم التشريفات لها مناسبات معينة، كعيد الميلاد الرسمي للملك، أو نهاية العام، أو انتهاء عهد الحكومة، وليس من المألوف رفع لائحة تشريفات للتاج بمناسبة عيد الفصح. السبب الآخر المثير للجدل واتهامه بالمحسوبية أن القائمة تتضمن زوج وزيرة سابقة من زعماء المحافظين، والملياردير رجل الأعمال محمد منصور، وهو من مواليد الإسكندرية (1948) وكان وزيراً للمواصلات في مصر (2006-2009) واستقال إثر حادثة قطار. منصور خلق آلاف الوظائف، وأقام العديد من المشروعات ويتبرع بالملايين للأعمال الخيرية فما سبب الاعتراض؟ السبب أنه تبرع لحزب المحافظين بخمسة ملايين جنيه إسترليني، أي اللقب مقابل التبرع.
ربما دافع اختيار سوناك لتوقيت قائمة التشريفات، ما جاء في تشخيص أناليز دودز، وزيرة المساواة وشؤون المرأة في حكومة الظل العمالية «بأنه يشعر باقتراب نهاية حكومته قبل انتهاء العام». آخرون يرون أن توقيت منح الألقاب والتشريفات في عيد الفصح قد يكون إشارة إلى احتمال الذهاب إلى صناديق الاقتراع في مطلع الصيف بدلاً من الانتظار حتى الخريف.
ورغم تزايد اتهامات من المعارضة العمالية بالمحسوبية للزعماء المحافظين، فإن غسيل العمال ليس أكثر بياضاً في حوش مكافأة المتبرعين. ففي حكومات بلير العمالية (1997-2007) كانت هناك اتهامات مشابهة، وفضيحة مقايضة التبرعات لحزب العمال بالألقاب وأيضاً بمقاعد في مجلس اللوردات.
النزاع أثار أيضاً قضية يتكرر الجدل حولها، وهي مدى استقلالية القرار السياسي إذا كان أصحاب التبرعات الكبيرة (التي كثيراً ما تساعد حزباً على الإنفاق في الدعاية وكسب الأصوات الجديدة) سيؤثرون على قرار الحزب الحاكم لاتخاذ سياسات تدعم مصالحهم. والتبرعات هنا لا تقتصر على رجال الأعمال (معظمهم للمحافظين، وعدد معتبر للعمال)؛ فالعمال بدورهم يتلقون جانباً هائلاً من التمويل من النقابات والاتحادات العمالية والمهنية. النقابات بطبيعتها الفكرية يسارية، ومعظم زعمائها من الماركسيين والاشتراكيين، وبالتالي فتأثيرهم على قرار حكومة عمالية بالنسبة للمطالب وقوانين العمل قد يضر بالاقتصاد وتكلفة الإنتاج، بينما التساهل في الإضرابات قد يضر بالمواطن العادي، خاصة في قطاعات الخدمات.
لكن كيف تمول الأحزاب نفسها؟
ثلثا بلدان العالم (ومنها بريطانيا) تحرم تلقي تبرعات من الخارج (بريطانيا أيضاً تمنع امتلاك حكومات أجنبية للصحف وشبكات البث)، بينما تمنع قوانين خمس بلدان العالم تبرعات المؤسسات التجارية الكبرى للأحزاب، في حين ترتفع النسبة إلى أكثر من ثلث البلدان التي تحرم تلقي تبرعات من شركات تتعاقد مع الحكومة.
المصدر الأول الثابت لتمويل الأحزاب في بريطانيا هو اشتراك العضوية، لكن عضوية الأحزاب الكبرى في انخفاض عددي مستمر منذ الخمسينات (العام الماضي كان للمحافظين 172 ألف عضو دافعي الاشتراك، وللعمال 432 ألف عضو، و74 ألفاً للديمقراطيين الأحرار)، ولذا يدعم الدخل من إقامة الحفلات الخاصة والعامة، وبيع المقتنيات الرمزية أو توقيع الكتب في المزاد، أما في بيوت الأعضاء أو في الأماكن العامة، أو«نادي» أو جمعية الحزب في الدائرة الانتخابية.
وهناك بالطبع شروط لسقف الإنفاق على الدعاية الانتخابية في الدائرة المحلية، بتحديد إنفاق الخزانة المركزية للحزب، لان ذلك لا يعطي فرصاً متساوية للأحزاب الصغيرة.
وهناك بلدان تمول فيها الخزانة العامة الأحزاب في موسم الانتخابات، مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وبولندا واليابان والمكسيك وكندا والنمسا وإسبانيا وهولندا.
في عام 2012 أجرت مؤسسة «يوغوف» استطلاعاً للرأي عقب إثارة مشكلة مشابهة، فرأى 70 في المائة أن التبرعات تزيد من نفوذ الأثرياء، وقال 60 في المائة إنه لا يجب أن يكون التبرع مفتاحاً لباب مكتب الوزير أو نائب البرلمان؛ و55 في المائة يوافقون على وضع حد أعلى للتبرعات (أربعة في المائة حددته بـ100 ألف جنيه، وثمانية في المائة بـ200 جنيه فقط)؛ والثلث لا يرون حاجة لحد أقصى.
وعندما طرح سؤال نموذج يماثل البلدان التي تمول الخزانة (أي دافع الضرائب) الأحزاب رفضته الأغلبية الساحقة من البريطانيين.