طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

دراما رمضان.... شيء من الهدوء!

استمع إلى المقالة

أكثر من دولة عربية انتفض فيها قطاع معتبر من الرأي العام عن طريق «السوشيال ميديا»، معرباً عن رفضه لهذا المسلسل أو ذاك، مؤكدين أنه يسيء مثلاً لصورة المرأة، وقد تتسع الدائرة ويصبح متهماً بالنيل من الوطن، حتى الإعلانات لم تسلم من هذا الطوفان، بحجة إهانة التراث الغنائي ومن ثم التاريخ!

في دولة الكويت هذه المرة، كان إعلان الغضب، وصاحب ذلك أيضاً بيان من وزارة الإعلام لم يذكر مباشرة اسم المسلسل الكوميدي «زوجة واحدة لا تكفي»، إلا أنه في النهاية لم يكن يقصد غيره، وتعددت التنويعات الرافضة.

تابعنا بعدها ما ناله المسلسل المغربي «بنات الحديد»، والحجة الجاهزة إهانة المرأة، وفي مصر اشتعلت مساحات احتجاج عدد من الأطباء الشرعيين بسبب مسلسل «أشغال شقة»، بحجة أنه ينتهك مهنة الطبيب الشرعي، ناهيك عن ثورة عارمة بسبب إعلان تم فيه استخدام أغنية عبد الحليم الشهيرة «دقوا الشماسي»، التي قدمها في فيلمه الأخير «أبي فوق الشجرة»، وتم استغلالها للترويج لأحد المنتجعات السكنية.

القضية كما ترى ليست جديدة أو مستحدثة، ولم تخلق من عدم، إنه ميراثنا القديم، الذي دأبنا فيه على محاكمة الصورة بوصفها حقيقةً مطلقةً، وغالباً ما نحيط تلك الرؤية المتعسفة، بمعايير أخلاقية مباشرة، كما أن أغلب أصحاب المهن يعتقدون أن الدراما تترصدهم، وعندما تقدم طبيباً أو مهندساً أو محامياً فهي تنال من المهنة أو تسعى للتحقير منها، وأتذكر قبل نحو عشر سنوات مثلاً احتجاج عدد من حارسات سجون النساء ضد مسلسل «سجن النساء»، وهو ما سبق مثلاً للمرشدين السياحيين إعلانه في مسلسل آخر والممرضات في مسلسل ثالث، بل وكادت نقابة الصحافيين المصرية أن تتورط قبل أكثر من 18 عاماً، في فعل مماثل، عندما طالب البعض بمصادرة فيلم «عمارة يعقوبيان» لأسباب معروفة، إلا أنه في النهاية انتصر صوت العقل وتراجعت النقابة، لأنها وجدت تناقضاً بين شعارها الأثير الذي تدافع فيه عن حرية التعبير، بينما تصادر في الوقت نفسه حق السينمائيين في التعبير!

لدينا عشرات من الحكايات المماثلة، وهي قطعاً غير مقتصرة فقط على شهر رمضان، إلا أن زيادة كثافة المشاهدة في هذا الشهر الكريم، تؤدي إلى زيادة مساحة جرعة الغضب.

تستطيع أن تكتشف قدراً كبيراً من التناقضات، تؤدي إلى قراءة مشوشة للعمل الفني، رغم أنه لا يوجد فيلم أو مسلسل، من الممكن أن يسيء إلى الوطن، كما أن تقديم شخصيات منحرفة تمارس مهنة محددة، لا يعني أن كل من امتهنها يعد في نظر الناس منحرفاً.

عندما نشاهد فيلم أو مسلسل أو مسرحية «ريا وسكينة»، الذي تناول أشهر سفاحتين في التاريخ، هل نعتقد أن صورة المرأة المصرية قد تم تدميرها، والكل سيعتقد أن تلك هي حقيقة المرأة على أرض «المحروسة»؟

كبار المخرجين أمثال يوسف شاهين في مصر ومرزاق علواش بالجزائر ونبيل عيوش في المغرب، وغيرهم، لم يسلموا من تلك القذائف النارية التي ألقيت في وجوههم، وعدَّهم البعض ينشرون الغسيل القذر لدولهم من أجل حصولهم على تمويل أجنبي لأفلامهم، طالب البعض مثلاً قبل 33 عاماً بسحب جواز السفر من المخرج يوسف شاهين، بمجرد عودته من «مهرجان كان» لأنه أساء للوطن بفيلم «القاهرة منورة بأهلها».

تمر أيام ويهدأ الرأي العام، عندما يكتشف أنه يشاهد عملاً فنياً يتناول شخصية محددة، ورغم ذلك فإن النار تظل تحت الرماد.

أتذكر بعد نكسة 67 مباشرة، قدمت الإذاعة المصرية وبتوجيه من جمال عبد الناصر، المسلسل الفكاهي «شنبو في المصيدة»، بطولة فؤاد المهندس وشويكار، ورددوا في «التتر» الغنائي «شنبو يا شنبو... والله ووقعت يا شنبو» على نفس لحن الأغنية الوطنية «بلدي يا بلدي... بلد الأحرار يا بلدي»، ولم يعتبرها أحد تسخر من الوطن ولا الزعيم، رغم أننا كنا نعيش تحت وطأة الهزيمة.

شيء من الهدوء وإعمال العقل مطلوب، فلا شيء من الممكن أن يسيء للوطن، مثلما يسئ إليه استخدام سلاح الإساءة للوطن!