الذين اطلعوا على مقالات رجاء النقاش في الرد على بعض ما قاله لويس عوض في سيرته الذاتية «أوراق العمر: سنوات التكوين»، التي جمعها في كتاب عنوانه «لويس عوض في الميزان»، قد يسألون: هل من المعقول أن يفوت رجاء النقاش ببصره الثاقب وبفراسته النقدية في قراءة النصوص والمقارنة بينها، أن لويس عوض في عام متأخر من أعوام حياته قد سطا على فكرة قال بها محمد مندور في عقد قديم؟
إجابة عن هذا السؤال، أقول: لا، ليس معقولاً أن حادثة السطو قد فاته التقاطها لكنه اضطر لأن يفوّتها ويتغاضى عنها. اضطر إلى ذلك لسببين قاهرين:
الأول، أنه في حديثه عن عبقريات العقاد الإسلامية في كتابه «عباس العقاد بين اليمين واليسار» الصادر ببيروت عام 1973 حين أورد كلام محمد مندور الذي أوردته في المقال السابق بالقدر الذي أورده هو في كتابه، مهّد له بقوله: «ويسجل الناقد الكبير محمد مندور في أوائل الأربعينات، أي بعد عودته من بعثته الطويلة إلى فرنسا، ظاهرة اهتمام جيل هيكل والعقاد بالكتابة الدينية، في ملاحظة دقيقة ذكية في كتابه المعروف (في الميزان الجديد)».
وبعد أن أورد كلامه علّق قائلاً: «هذه هي ملاحظة مندور - بذكائه وحساسيته وسلامة وجدانه - بعد عودته من فرنسا، وقد كتب ملاحظته هذه في أوائل الأربعينات. وهو يفسر اهتمام كبار الكتاب في تلك الفترة بالكتابة عن (محمد) بأنها نوع من الاستجابة لضغط (المجتمع). ذلك أنهم لم يكونوا في البداية من رجال الفكر الديني، بل لقد اتجهوا إلى هذا الفكر في الجزء الأخير من حياتهم».
ففي التمهيد إطراء لكلام محمد مندور، وفي التعليق على كلامه إطراء مضاعف لصاحبه.
وإن كشف رجاء النقاش أن ما قاله لويس عوض منحول من كلام محمد مندور، فإن إطراءه على كلام محمد مندور وإطراءه المضاعف لصاحبه، لا يستقيم مع ردّه الغاضب والمستَفز على ما قاله لويس عوض في سيرته الذاتية.
الآخر، عني رجاء النقاش في المنتصف الأخير من السبعينات الميلادية في مجلة «الهلال» المصرية، وفي مجلة «الدوحة» القطرية بالتصدي للحملة الدينية التي شنها على طه حسين أنور الجندي وعبد المجيد عبد السلام المحتسب في كتابيهما «طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام» و«طه حسين مفكراً». ولمس منذ ذلك الوقت الآثار السيئة للحملات الدينية التي قادتها كتائب الإسلاميين ضد الأدباء والنقاد والمثقفين في عدد من البلدان العربية، وضد الثقافة العربية المعاصرة، بمعناها الحديث.
فإن كشف أمر ذلك الانتحال خشي أن الكلام المنحول منه سيدخل اسم محمد مندور في قوائم الملاحقين والمطاردين بالسب والشتم الديني من قبل تلك الكتائب في كتاباتهم الدعائية والتحريضية.
لا أشك أن رجاء النقاش - لإيثاره محمد مندور بالإعجاب والتبجيل والإعزاز - كان مسوقاً بالعاطفة حين وصف كلام محمد مندور بالملحوظة الدقيقة الذكية، ووصفه بالذكاء وإرهاف الحس وسلامة الوجدان.
فكلامه عند تدقيق النظر فيه، لن نرى ما ينم عن تحقق صفات الإطراء تلك، فيه ولا في قائله.
في بداية كلام مندور، الجيل السابق لجيله، جيل الشيوخ – أي الكبار في المنزلة الأدبية والكبار في السن – الذين لم تذكر أسماؤهم، هم: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد.
زبدة كلامه، هو سؤاله الاستنكاري هذا: «ما بال معظم كتابنا انتهوا بالكتابة عن (محمد)؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه».
مع هذا السؤال الاستنكاري، سيحسب القارئ الذي لا يعرف مقدار أعمارهم حين بدأوا بالكتابة عن محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنها كانت قد ناهزت العُمْرَين. وهذه الجملة تقال عن الذين قاربوا الثمانين عاماً.
محمد حسين هيكل حين بدأ نشر فصول من كتابه «حياة محمد» في جريدة «السياسة الأسبوعية» عام 1932، كان عمره 44 عاماً.
طه حسين حين نشر الجزء الأول من كتابه «على هامش السيرة» عام 1933، كان عمره 44 عاماً. توفيق الحكيم حين نشر مسرحية «محمد» عام 1936، كان عمره 38 عاماً.
عباس محمود العقاد حين نشر فصلين من كتابه «عبقرية محمد» هما: «عبقرية محمد العسكرية» و«عبقرية محمد السياسية» في مجلة «الرسالة» بتاريخ 4 و11 مارس (آذار) 1940، كان عمره 50 عاماَ. وحين نشر كتابه عام 1942، كان عمره يتراوح بين 51 و52 عاماً. وذلك لأنني لا أعلم في أي شهر من 1942، صدر الكتاب. ومخنق الخمسينات، أي أولها، كالأعمار السالفة لمحمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم، يعد من سنوات منتصف العمر.
تقول العرب عن الذي بلغ سن الأربعين: وبلغ أشدّه، وعضّ على ناجذه، وعلى ناجذيه، وعضّ على ناجذ الحلم، إذا تناهى شبابه وبلغ كمال البنية والعقل. ورجل مُسْتَو، ومُجتمع، ومُجتمع الأشد.
ومن المؤكد أن محمد مندور قد غفل عن تذكّر هذه الآية القرآنية: «حتى إذا بلغ أشدّه، وبلغ أربعين سنة». أو أنها ساخت عنده في هوّة النسيان حين خطّ ما خطّه!
رجاء النقاش لم يكتف بإزجاء الإطراءات السالفة لمحمد مندور ولكلامه، فقرر في تعليقه على كلامه - تأكيداً له - بأنهم كانوا «في الجزء الأخير من حياتهم»!
قاتل الله العاطفة الجياشة، إذا كانت في غير موضوعها الصحيح. فهو أصلاً ليس مثل محمد مندور مجافياً لتأليف كل من العقاد والحكيم وطه حسين وهيكل كتاباً عن النبي محمد. فرأيه كان إيجابياً في اتجاههم هذا. وهو ما أعلنه في حديثه عن عبقريات العقاد الإسلامية في كتابه «عباس العقاد بين اليمين واليسار». وأعلنه قبلها في حديثه عن عبقريات العقاد الإسلامية في رثائه للعقاد بعد وفاته في 12 مارس 1964.
وكان من مصادفات التقارب في الأعمار أن عباس محمود العقاد - قبل أن يخطّ سطراً في السير الإسلامية - كتب مقالاً ترحيبياً بصدور الجزء الأول من كتاب طه حسين «على هامش السيرة» في مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مارس 1934، وكان عمره آنذاك 45 عاماً. وثمة معلومة مفيد ذكرها في هذا السياق، وهي أن عباس محمود العقاد وطه حسين من مواليد عام واحد، هو عام 1889. والعقاد يكبر طه حسين بأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً.
مجلة «الهلال» كتبَت مقدمة للمقال، قالت فيها: «على هامش السيرة كتاب نفيس أصدره أخيراً الأستاذ الدكتور طه حسين، وقد تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، فكتب عنه هذا الفصل القيم الذي ننشره فيما يلي».
في ذلك العام وفي ذلك الشهر وفي ذلك اليوم الذي نشر مقال العقاد فيه، كان محمد مندور لا يزال يدرس في جامعة السربون. وقد قال العقاد عمّن هم مثله، يستنكرون كتابة الأدباء العصريين عن النبي محمد: «قال قائل من اللاغطين بالنقد على غير بصيرة: ما أحسب إلا أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين. فهو هنا لإغضاب المحدثين. وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير! فمرة تقع النوبة على أهل الجمود ومرة أخرى تقع النوبة على أهل التجديد!
قلت: بل أنا أحسب غير ذلك، ولا أرى في الأمر شيئاً من قصد الإثارة والإغضاب.
أحسب أن الدكتور قد مُلئ إعجاباً بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال وأنباء العصور. فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر البليغ وعالم التاريخ الصادق، وتجري حوادثها في آفاق الزمن الغابر الذي لا حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة، فنحن نفهم الإلياذة، أو ننكرها. لأنها أفرغت في ذلك القالب وانتظمت في ذلك الأسلوب، ثم نحن نفهم (على هامش السيرة)، ولا نجهله ولا ننكره. لأنه نقل إلينا الجاهليين، كما كانوا في حياتهم وعقائدهم وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا، كما نكون نحن لو أننا انتقلنا بزماننا إلى زمانهم. فهل أصاب الدكتور أو أخطأ؟ وهل أحسن من ناحية القصص أو لم يحسن؟
أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزداد شيئاً كثيراً لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين، ولكن أسلوب القصص يخسر كثيراً من البساطة والتخيل لو أننا سردنا القصة معللين محللين».
في زبدة كلامه أردف سؤاله الاستنكاري بسؤال آخر يتضمن جوابه عن سؤاله الاستنكاري ألا وهو: «أهو إيمان من يشعر باقتراب اليوم الآخر؟». وختم هذين السؤالين بتمني المؤمنين الورعين الأتقياء وذلك حين قال: «ذلك ما نرجوه».
انتقاله من سؤاله الاستنكاري إلى سؤاله الرديف، لم يكن باعثه «حسن التخلص» البلاغي، بل أوجبه عليه «حسن التخلص» القانوني خوفاً من سلطة ما سمّاه في كلامه بـ«الهيئة الاجتماعية»، وسمّاه رجاء النقاش في تعليقه بـ«المجتمع».
أما خاتمة السؤالين «ذلك ما نرجوه»، فهي تنبو عن سؤاله الاستنكاري. ساعده على الإتيان بها سؤاله الرديف ذي الانتقالة المفاجئة، فكانت جدّاً اختلط بهزل، حماية لنفسه من سخط المتدينين في «الهيئة الاجتماعية».
ليت ناقدنا الأدبي الكبير، محمد مندور، لم يأت بسؤاله الرديف. فسؤاله الرديف مبني على جملة اخترمته وانتهكته وهتكته، وهي: «اقتراب اليوم الآخر».
فهل كان ناقدنا الأدبي الكبير، يجهل – لغوياً وإسلامياً – أن «اليوم الآخر» اسم من أسماء متعددة لـ«يوم القيامة»؟ وللحديث بقية.