د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الطاقة الإنتاجية الفائضة

استمع إلى المقالة

يشير مصطلح القدرة الإنتاجية الفائضة، إلى استثمار الدول أكثر من اللازم في سلعة معينة، إلى درجة تجعلها لا تجد مشترين لهذه السلع. ويؤدي هذا الوضع إلى عدم استغلال الموارد بالقدر الكافي، مثل العمالة والآلات ومساحة المنشأة، مما يؤدي إلى عدم الكفاءة واختلال التوازن الاقتصادي. كما يمكن أن تتسبب هذه الحالة بمشاكل بين الدول في حال أراد بعضها تصدير طاقته الإنتاجية الفائضة بأسعار منخفضة، مما يؤثر على تنافسية الدول الأخرى. والأمثلة على زيادة الطاقة الإنتاجية عديدها، ويرتبط الكثير منها في وقتنا الحالي بالصين، سواء في حالة الفحم والحديد سابقاً، أو في المنتجات الخضراء حالياً.

يمكن أن تنشأ الطاقة الإنتاجية الفائضة من مصادر مختلفة، سواء كانت دورية أو هيكلية بطبيعتها، مثل الدورات الاقتصادية. فخلال فترات الازدهار، يرتفع الطلب، وقد تزيد الشركات من قدرتها على تلبية هذا الطلب، ومع تباطؤ الاقتصاد ودخوله في مرحلة الركود، يتضاءل الطلب، مما يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية. ولا يمكن إغفال دور العوامل الهيكلية التي تتضمن تحولات أكثر جوهرية في الاقتصاد، مثل التقدم التقني الذي يؤدي إلى تحسين الإنتاجية بشكل كبير دون زيادة متناسبة في الطلب، أو التغيرات في تفضيلات المستهلك التي تجعل بعض المنتجات أقل رغبة. كما قد تبالغ بعض الشركات في تقدير الطلب المستقبلي على منتجاتها، مما يؤدي إلى الإفراط في الاستثمار، وهو ما يؤدي إلى إنشاء مرافق إنتاج أكثر من اللازم. ومن الممكن أن يتغذى هذا الاستثمار المفرط على التوقعات المفرطة في التفاؤل، أو القروض منخفضة التكلفة، أو الحوافز غير المتسقة. وأخيراً، فإن ترابط الاقتصاد العالمي يلعب دوراً جوهرياً في الطاقة الإنتاجية الفائضة، ويمكن أن تؤثر التحولات في جزء واحد من العالم على استخدام القدرات في أماكن أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي التباطؤ في الاقتصاد الرئيسي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية في الدول الموردة.

وفي حين أن وجود احتياطي في الطاقة الإنتاجية يمكن أن يكون مفيداً، مما يسمح للشركات بالاستجابة بسرعة للزيادات المفاجئة في الطلب، فإن الطاقة الفائضة الطويلة أو الكبيرة تكون ضارة بشكل عام. وهو يدل على إهدار الموارد وزيادة التكاليف، مما يؤدي إلى انخفاض الربحية والتشوهات الاقتصادية المحتملة. وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، يمكن أن تشير القدرة الفائضة واسعة النطاق إلى مشاكل أعمق مثل سوء تخصيص رأس المال أو التحولات الاقتصادية التي لم تتم معالجتها.

وتتطلب معالجة الطاقة الإنتاجية الزائدة اتباع نهج متعدد الأوجه، مثل التكيف من خلال قوى السوق، فمن الناحية المثالية، ينبغي لآليات السوق أن تعمل على حل مشكلة الطاقة الفائضة، مع قيام الشركات الأقل كفاءة أو غير التنافسية بتقليص حجمها أو الخروج من السوق، وبالتالي مواءمة العرض مع الطلب، ويستخدم هذا النهج بكثرة في الولايات المتحدة، كما تلجأ بعض الشركات إلى الابتكار أو تنويع خطوط إنتاجها واستكشاف أسواق جديدة لزيادة الطلب على طاقتها الإنتاجية. وفي بعض الحالات، قد تتدخل الحكومات فارضة سياسات لتحفيز الطلب بدلاً من خفض الإنتاج، وهناك مثال طريف على ذلك، وهو ما قامت به الحكومة اليابانية من إيجاد حوافز للطلب على منتجات الكحول الوطنية بين الشباب الياباني، الذي انخفض شربه للكحول بسبب اختلاف سلوكيات حياته التي تميل أكثر للعمل من اللهو.

وتعد الصين أحد أكثر البلدان التي واجهت هذه المشكلة في صناعات مثل الصلب والفحم، ويعزى ذلك إلى التوسع الصناعي السريع والاستثمار المكثف في البنية التحتية. وقد اتخذت الحكومة الصينية خطوات للحد من هذه الطاقة الفائضة، بما في ذلك إغلاق المصانع غير الفعالة وتعزيز القطاعات ذات القيمة المضافة الأعلى. كما تواجه الصين الآن اتهامات من الدول الغربية بزيادة طاقتها الإنتاجية في المنتجات الخضراء مثل الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، ومبعث هذه الاتهامات اقتصادي بحت، وهو أن الصين أخرجت الشركات الأوروبية من السوق بسبب سياساتها الداعمة لهذه الصناعات. والمفارقة أن دول الاتحاد الأوروبي نفسها عانت من هذه المشكلة في صناعات الألواح الشمسية، فبسبب ارتفاع تكلفة إنتاجها، أصبحت الألواح الشمسية تنتج ولا تباع، مما أدى إلى خروج معظم الشركات الأوروبية المصنعة من السوق. وقد عانت الولايات المتحدة كذلك سابقاً من الطاقة الإنتاجية الزائدة أثناء أزمة 2008 المالية في صناعة السيارات بسبب الركود الاقتصادي العالمي.

إن مسألة الطاقة الإنتاجية الزائدة ليست جديدة، بل كانت سمة من سمات الاقتصادات الصناعية منذ الثورة الصناعية. تاريخياً، سلطت فترات الركود الاقتصادي، مثل أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن الماضي، الضوء على الطبيعة الدورية للقدرة الفائضة، مما سلط الضوء على الحاجة إلى آليات فعالة لإدارة التقلبات الاقتصادية. ويمكن أن تؤدي القدرة الفائضة إلى توترات جيوسياسية، خاصة عندما تحاول البلدان تصدير فائضها، مما يؤثر على الأسواق العالمية ويؤدي إلى نزاعات تجارية. ورغم أن الطاقة الإنتاجية الفائضة تقدم فوائد قصيرة الأجل من حيث الاستجابة للطلب، فإنها تفرض تحديات كبيرة طويلة الأجل إذا تركت دون معالجة. وهو يسلط الضوء على أوجه القصور وسوء التخصيص داخل الاقتصاد، مما يؤدي إلى مشاكل اقتصادية وبيئية واجتماعية. وتتطلب معالجة القدرة الفائضة اتباع نهج دقيق ومتعدد الأوجه يعمل على موازنة قوى السوق مع تدخلات استراتيجية تهدف إلى تعزيز الابتكار والاستدامة والمرونة الاقتصادية على المدى الطويل.