لم يحدث في تاريخ العلاقات الثنائية بين دولة كبرى ودولة وازنة في العالم الثالث ما حدث من خيارات طارئة لم يسبق حدوثها بالتطورات والتداعيات على النحو الذي اتصفت به العلاقة بين روسيا بطبعتها السوفياتية التي تقودها صيغة ثلاثية الأضلع، ومصر الخارجة من علاقة شديدة الوطأة في ظل حالة استعمارية بريطانية أدت أساليب التعامل من جانب الإنجليز إلى أن مجموعة من الضباط قاموا بانقلاب نأى عن أي ضرورات دموية وغير إنسانية على نحو ما حدث في العراق، على سبيل المثال لا الحصر. وعندما حاول العم سام الأميركي إقناع المجموعة الانقلابية بأن يكون البديل للوجود البريطاني، إنما بصيغة الاحتواء، أو فلنقل صيغة الحليف بمعنى أن يكون النظام الجديد في مصر بمثل النظام الشاهاني في إيران الخمسينات، لقطع الطريق على الاتحاد السوفياتي المتطلع إلى أن تكون له حصة من كعكة المنطقة العربية... إن العم السام وفي شخص الدبلوماسي العريق جون فوستر دالاس وزير الخارجية زمنذاك، خرج محبطاً نتيجة عدم التجاوب مع مبتغاه، لتبدأ على خلفية هذا الإحباط - وبنسبة بسيطة من الشروط التعجيزية - حقبة دخول الاتحاد السوفياتي المزوِّد النظام الثوري الجديد بقيادة جمال عبد الناصر صفقات متتالية من السلاح وبتسهيلات تستهدف الكرملين؛ منها تعميم ورقة اكتساب مزيد من التمدد في الدول العربية ومعظم الدول في العالم الثالث، حيث أهل الحكم لا مال عندهم بما يكفي لتعزيز الشأن وهذا يحققه امتلاك أنواع من السلاح.
تلك خطوة كانت نوعية، وقطفت مصر الناصرية ما عزز شأنها معنوياً إلى أن حدثت حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، وشكلت الهزيمة وقفة من التأمل في الموقف السوفياتي الذي كان قادراً على تزويد مصر بما هو متقدم من السلاح، بحيث إذا كان لن يحقق نصراً فإنه قادر على ألّا يجعل الهزيمة تصل إلى ما وصلت إليه. وعلى خلفية الواقع الصادم عاود العم سام اقتحام مصر وقد باتت في عهدة الرئيس أنور السادات الذي تصرَّف إزاء السوفيات ما كان من المستبعد إقدام عبد الناصر عليه.
ونشير هنا إلى أن القادة السوفيات - وبعد فترة وجيزة من مواراة عبد الناصر الثرى - وضعوا العهد الساداتي تحت مجهرهم، وبدأ هؤلاء وبالذات الرجل الأول في «الترويكا» ليونيد بريجنيف، يخص المجموعة الناصرية، تحديداً علي صبري الأكثر معرفة به والذي كثيراً ما اختبروا مدى اقتناعه بأن تتطور العلاقة المصرية - السوفياتية في حقبة ما بعد عبد الناصر وخرجوا من اختبارهم بأنه رجل المرحلة الصعبة القادر على كبح السادات، وسجلوا في هذا الشأن ما يعكس نياتهم الحقيقية، حيث إن القادة الثلاثة (بريجنيف. كوسيغين. بودغورني) استقبلوا علي صبري الذي زار موسكو (الأحد 20 ديسمبر/كانون الأول 1970) موفداً من السادات في مطار موسكو، وليس مسؤولاً يتساوى في المنصب بالمسؤول المصري الزائر.
وهذه الواقعة غير المسبوقة جعلت السادات يعد العدة لرد الكيل أكيالاً متلاحقة للسوفيات، وكلها تلقى الارتياح من الجانب الأميركي. لم يحصل ما افترض السادات حصوله؛ وهو أن يأتي بريجنيف إلى مصر ويشارك السادات في احتفالية إتمام العمل في السد العالي، وعلى نحو حضور خروتشيف (أي الأول في «الترويكا») زمنذاك ومشاركة عبد الناصر وضْع حجر الأساس لبدء العمل في السد، وبدلاً من ذلك حضر نيكولاي بودغورني وألقى كلمة عادية جداً وليست كما يتوقع السادات سماعها؛ وهي: «جئتُ أشارك في الاحتفال بإتمام أعظم بناء وأجتمع بالسادات لدعم صداقتنا وتعاوننا في القضايا الحيوية...». ومرة أُخرى يشعر السادات بأن برودة التعامل معه من برودة الطقس الروسي المثلج، ويقرر الشروع في تنفيذ خطة مختمرة بتفكيره بدأت بالموافقة على معاهدة بين الدولتيْن رآها السادات غير موجبة ما دامت لم تحدُث في زمن عبد الناصر، وأن الغرض منها هو تكبيل السلوك الساداتي، لكنه وضع توقيعه عليها كطرف ثانٍ يلي توقيع الطرف الأول بودغورني وبتاريخ 27 مايو (أيار) 1971 الموافق الثالث من ربيع الثاني 1393 هجرية.
وبموجب النص الذي أراده الكرملين يمتد مفعول المعاهدة خمس عشرة سنة، وهي في نظر الكرملين كافية للطمأنينة والبقاء، وافتراض أن العهد الساداتي لن يدوم أكثر من هذه المدة، وفي هذه الأثناء يكون الكرملين وضع خطة بقاء مصر في عهدته وعلى نحو ما كانت عليه أيام عبد الناصر.
لم يخطر في بال الكرملين أن الرئيس السادات لم يتحمل ما رآه من سلوك الكرملين غير الودي تجاهه، وأيضاً طبيعة تعامل قادة الكرملين معه عندما قام بزيارة إلى موسكو بقي عدم الإعلان عنها رسمياً من الزائر الرئيس المصري والقيادة السوفياتية (بريجنيف. كوسيغين. بودغورني).
ونكرر الافتراض بأن الساعات التسع من المحادثات التي عقدها الرئيس السادات مع القيادة السوفياتية على مدى يومين لم يحقق منها ما يتطلع إليه؛ وهو أن يكون التعامل بين الدولتيْن على نحو ما كانت عليه في سنوات عبد الناصر، وكان علاجه في مصح «تسخالطوبو» على مدى شهر نموذجاً على صفاء التعامل، عكس ما هو عليه من غيوم ثقيلة مع السادات. ومنذ المرحلة الأولى لانتقال السُلطة، بقيت العلاقة المصرية - السوفياتية على مدى خمسة عشر عاماً من الثقة والحرص السوفياتي على أن تبقى العلاقة صامدة عند هبوب العواصف الأميركية - البريطانية. ولقد صمدت، لكنّ التهاوي شق الطريق، ونرى الرئيس السادات يهيل من القرارات المباغتة ما جعل العلاقات المصرية - السوفياتية ما أوجب إنقاذاً للوضع لم تحقق سنوات الرئيس حسني مبارك ما يكفي للإنقاذ. ثم يبدأ عهد مصري جديد يباشر، ووفق روحية أسلوب عبد الناصر، ترميم التصدعات السياسية - العسكرية، مسجلاً الرئيس عبد الفتاح السيسي أسلوباً وقراءة موضوعية لما هي عليه الأحوال في المنطقة ومكانة مصر في الإقليم. وخلاصة هذه القراءة أن الترميم ممكن للعلاقة المتصدعة، وأن عوائد هذا الترميم مأمولة إلى حد أن ما بدأ صفقة سلاح عام 1955 مع مصر عبد الناصر من المتوقع أن يثمر نووياً مع مصر السيسي خطوة خطوة. وللحديث بقية.