د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

التلاعب بالعقول البشرية

استمع إلى المقالة

تمكَّن الكاتب المسرحي البريطاني باتريك هاملتون من تجسيد كيف يمكن التلاعب بالعقول في مسرحيته الدرامية النفسية التي تحولت إلى مفهوم نفسي خطير. تدور أحداث مسرحية «غاز لايت» التي عرضت عام 1938م، حول زوج يحاول زرع بذور الشك في زوجته من خلال تصرفات عديدة، منها تغيير شدة إضاءة الغاز (الفانوس) أو تعتيمها في ذلك البيت الفيكتوري، وإخفاء أشياء حول الزوجة، ثم ينكر حدوث أي تغير، حتى يشككها في سلامة عقلها وذاكرتها، عبر التضليل والإنكار المستمرين.

ويلجأ المراهقون إلى تنمُّر شبيه عندما يتفقون سراً على إيهام «الضحية» بأن وجهه أصفر مثلاً، أو شاحب، أو تعلوه حُمرة، فكلما دخل عليه أحدهم قال له: «عسى ما شر» (ماذا دهاك؟) لماذا لونك أصفر؟ فيصعق المسكين فيصدق مزاعمهم بسبب قوة التكرار. وربما يضع مبررات وجيهة مرتبطة بنومه أو طعامه! وهذا التكرار هو ما يحدث في الإعلام الموجه، لإيهام المشاهد، أو بالأحرى عدم احترام عقليته.

في عام 2022، اكتشف «قاموس ميريام ويبستر» الأميركي الشهير، أن كلمة «Gaslighting» أو «التلاعب بالعقول»: قد زاد البحث عنها بنسبة 1740 في المائة. وقد يعود ذلك إلى جائحة فيروس «كورونا» التي شلَّت مطارات وسيارات ومدارس الكرة الأرضية؛ بل وكل أوجه الحياة، في حدث لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وصار هناك من يميل إلى أن ما حدث كان خدعة أو تلاعباً بعقولنا، لم يكن يستحق كل ردود الأفعال المبالغ فيها، وأن غرضها كان كبح جماح الاقتصادات الصاعدة كالصين وغيرها.

مفهوم «التلاعب بالعقول» صار متغلغلاً في الإعلام، والسياسة، والحياة الاجتماعية والمهنية. ويأتي في صور عديدة، منها: خداع العقول بالكذب، ولذلك قال رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، إن «الحقيقة غالية جداً، ولذا يجب أن نحميها بجيوش من الأكاذيب». وفي العلاقات، قد يؤدي التلاعب بالعقول إلى إحساس الضحية بأن ردود أفعالها العاطفية غير مبررة على الإطلاق، مما يجعلها تشكك في تجاربها ومشاعرها الخاصة.

ويستخدم المسؤول اللئيم «التلاعب بالعقول» في تثبيط مَن ينافسونه بالتفاني في العمل حتى يسأموا وينزووا، لينفرد هو بالإدارة والصيت. ويتناسى أن نجاح مرؤوسيه من نجاحه؛ لكنه عين فقدان البصيرة.

ومن تداعيات التلاعب بالعقول، أنه يؤدي إلى تدهور تقدير الذات «self‪-esteem» والقلق، والاكتئاب، وشعور الضحية بالعجز والوحدة. وقد يصل بالضحية إلى الاعتذار بشكل متكرر، واختلاق أعذار للمعتدي.

يُعرَف عن الشخصية النرجسية أنها من أكثر مَن تستلذ بالنيل من ذوات من حولها، وذلك بتحطيم معنوياتهم تارة، أو التقليل من إدراكهم وأفكارهم تارة أخرى.

التلاعب بعقولنا ازداد بسبب التكنولوجيا والانفجار الإعلامي، وصارت حاجتنا ماسة لمؤسسات تدقق في كل خبر وتصرف يحاول خداع الناس. ولذلك يقول الرئيس الأميركي إبراهام لينكون: «يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت؛ لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت».