رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

الاحتباس السياسي في لبنان... انفراج أم انفجار؟

استمع إلى المقالة

ثمّة تناقضات هائلة يعيشها لبنان واللبنانيون في هذه الأيام. الجمهوريّة، بمؤسساتها الدستوريّة والسياسيّة معلقة بشكل شبه تام. الفراغ الرئاسي أكمل عامه الأول ونيفاً من دون أن يكون هناك في الأفق ما يشي بتغير قريب لهذا الواقع المرير، الحكومة ليست مكتملة الصلاحيات ولا النصاب الوطني، وهي بالكاد تقوم بتصريف الأعمال دون أن تمتلك القدرة (ولا الرغبة ربما) لمعالجة القضايا بطريقة جذريّة، وهو ما يتجاوز صلاحياتها أساساً.

والأمر ذاته ينطبق على القضاء اللبناني الذي تراه يغرق في سبات عميق حيال المئات من الملفات العالقة (خصوصاً في قضايا الفساد)، في حين يبدي حماسة قد تكون «مشبوهة» حيال ملفات أخرى ثانوية وأقل أهميّة قياساً إلى الواقع المتردي على مختلف الصعد والذي وصل إلى درك غير مسبوق في الكثير من الحالات.

أما في المجال الاقتصادي، فهناك تقع المفارقات الفاقعة، بين قطاعات تعج بالزبائن كالمطاعم والمقاهي والمنتجعات السياحيّة والفنادق فضلاً عن قطاعات تجاريّة أخرى تتصل بالألبسة (المستوردة بغالبيتها الساحقة) والأطعمة والمواد الغذائيّة؛ وبين قطاعات تئن وتمرّ في ظروف صعبة نتيجة الحال الاقتصاديّة العامة في البلاد ونتيجة الانهيار غير المسبوق الذي اختبره لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية من دون إيجاد الحلول المطلوبة والكفيلة بالخروج من النفق.

ثمّة من يرى أن لبنان واللبنانيين يملكون قدرة عالية على التكيّف مع المتغيرات السياسيّة والاقتصاديّة، وأن ذلك يجعلهم لا يعيرون الكثير من الأهميّة لتطبيق مبادئ المحاسبة والمساءلة، وهي غير منتظمة أساساً بسبب تركيبة النظام الطائفي والمذهبي في لبنان، الذي تُنظم على أساسه كل مفاصل الحياة الوطنيّة والسياسيّة اللبنانيّة، والذي يُشكّل آفة تاريخيّة لا يبدو أن التخلص منها أو تجاوزها سيكون متاحاً في وقت قريب قياساً إلى الظروف الراهنة بكل تعقيداتها وتشابكاتها.

إلا أن هذه المقاربة تنطوي على الكثير من التبسيط، إن لم يكن من التسخيف لواقع الحال اللبناني ومآلاته المستقبليّة، خصوصاً على ضوء الاحتباس السياسي الذي تشهده البلاد والذي نال «جرعة» إضافية من التعقيدات مع السخونة الكبيرة التي تشهدها الجبهة الجنوبيّة عقب انطلاق الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة والتي لا تزال مستمرة دون هوادة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقد خلفت لغاية اليوم أكثر من عشرين ألف شهيد.

إلا أنَّ التجارب التاريخيّة تؤكد بما لا يقبل الشك بأن الاحتباس إمَّا أن يولد انفراجاً أو انفجاراً في لحظة سياسيّة ما، بمعنى إما أن تتضافر الجهود والاتصالات الدبلوماسيّة وتستولد حلاً سياسياً يُشكل مخرجاً من الأزمات المتفاقمة (وما أكثرها في لبنان)، وبالتالي تفتح المجال أمام واقع جديد، وإما أن يحصل العكس تماماً، أي أن تنزلق التطورات نحو مسارات تخرج فيها الأمور عن السيطرة وتأخذ البلاد نحو واقع جديد عنوانه الصدام الكبير.

وإذا كان الصدام الأهلي ليس مطروحاً في الوقت الراهن لعدم رغبة أي من الأطراف اللبنانيّة، خصوصاً القوية منها، بخوض غمار تجربة مماثلة لتجربة الحرب الأهليّة الطويلة والمدمرة (1975- 1990)؛ إلا أنه لا يمكن التعويل على هذه «الرغبات» حصراً والركون إليها بكونها تشكل صمام أمان سوف يحول حتماً دون انزلاق البلاد إلى أتون الاقتتال الداخلي، ورسم واقع سياسي جديد ينتج منه موازين قوى جديدة مغايرة للتوازنات الحالية.

الجبهة الجنوبيّة اللبنانيّة الساخنة تغذي الانقسامات المحليّة التي لم تكن يوماً إلا محتدمة وعميقة، وهي باتت تطرح تساؤلات مشروعة حول مساراتها المستقبليّة، لا سيّما على ضوء الاستفزاز الإسرائيلي المتواصل والمتصاعد الذي تعبّر عنه الحكومة اليمينيّة المتطرفة والتي قد يكون من صالحها فتح حرب على حدودها الشماليّة لتغطية إخفاقاتها المتتالية في حرب غزة؛ إذ إنها فشلت في القضاء على حركة «حماس»، كما أنها لم تتمكن من استعادة أي أسير إلا من خلال الصفقة التي تم التوصل إليها برعاية قطريّة - مصريّة - أميركيّة.

من المهم أن يحافظ لبنان على استقراره، وأن يعيد إحياء المؤسسات الدستوريّة المعطلة، وأن يبحث عن صيغة تمكنه من مواجهة الغطرسة الإسرائيليّة، من دون التورط في حرب ستكون مدمرة على مختلف المستويات. إنه مسار صعب ولكنه ليس مستحيلاً.