د. ياسر عبد العزيز
TT

الحرب بين «تعب الأخبار» و«تعب الرحمة»

استمع إلى المقالة

لقد أضحينا نعرف أن الحروب التي يشهدها عالمنا عادةً ما تحظى باستراتيجية اتصال؛ وهي استراتيجية يسعى من خلالها المخططون والقادة إلى توظيف وسائل الاتصال والإعلام المُتاحة لهم، لخدمة أهداف المعركة وأنشطتها.

وفي بعض التجلِّيات العلمية التي سعت إلى سبر غور ذلك الاستخلاص، برزت إفادة حظيت بقدر من التوافق كبير؛ وهي الإفادة التي تشير إلى أن المعارك لا تُربَح في ميادين القتال وحدها، وإنما تُربَح عبر تضافر القوة الخشنة -التي تمثلها قدرة النيران والعمليات الميدانية في أعمال القتال- مع القوة المعنوية التي تركز على كسب العقول والقلوب.

وفي الجانب المتعلق بكسب العقول والقلوب، لم يكن هناك أفضل من وسائل الإعلام المختلفة لتأدية هذا الدور، وهو الأمر الذي ظل يتصاعد، وتُبذل فيه الجهود الوافرة، حتى ظن البعض أن المعارك يمكن أن تُربَح فقط على شاشات التلفزيونات والهواتف المحمولة. لكن الاتصال والإعلام لم يكن مفعولاً به كأداة من أدوات المعركة فقط، ففي بعض الأحيان يتحول فاعلاً مكتمل الأركان، وربما يُملي على بعض القادة والمخططين قرارات معينة، أو يغير استراتيجياتهم العامة.

شيء من هذا ألمح إليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي كان يتحدث إلى برنامج «واجه الصحافة»، عبر «إن بي سي»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي؛ حيث قال إن «الناس بالطبع في العالم متعبون، كما تُمثل الحرب في الشرق الأوسط فرصة لـ(فلاديمير) بوتين لإبعاد الأضواء عما يحدث في أوكرانيا».

ويبدو أن الجانب الروسي استفاد بالفعل من عاملين إعلاميين جوهريين، في مقاربته لما يسميها «العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا»، وأول هذين العاملين هو حالة «تعب الأخبار» (News Fatigue) التي أصابت قطاعاً واسعاً من متابعي الحرب الروسية- الأوكرانية، وأبعدتهم عن الاهتمام بهذه المعركة.

وأما العامل الثاني، فليس سوى ما أشار إليه زيلينسكي بالفعل، حين تحدث عن أن حرب غزة سحبت الأضواء من الحرب التي تخوضها بلاده، وهو ما جعل غريمه الرئيس الروسي بوتين «سعيداً»، كما يعتقد.

تؤدي التغطية الإعلامية المكثَّفة للحروب والنزاعات العنيفة عادة إلى ظهور حالة «تعب الأخبار»، وهو مصطلح يشير إلى المردود النفسي السلبي والمُجهِد الذي يضرب وجدان المتعرضين للأخبار السلبية الحادة، نتيجةً لتدافع الصور المأساوية والأخبار القاتمة والمشاهد المروعة للقتل والتشريد وفقدان الأحباب.

وببساطة شديدة، فإن «تعب الأخبار» حالة تصيب الفرد والجماعة جرَّاء التعرُّض المتكرِّر لسيل من الأخبار والمعالجات الإعلامية لظاهرة سلبية، بما يؤثر تأثيراً ضاراً في الصحة النفسية، وفي الاتجاهات الوجدانية، ويعزز حالة التوتر وعدم اليقين، ويُفقِد الجمهور القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.

وربما كان «تعب الأخبار» جزءاً من العوامل التي يبني عليها المخطِّطون الروس استراتيجياتهم القتالية، والتي ظهر أثرها أخيراً في تطوير هجومهم الأخير، وتوسيع نطاقه، من دون أن تحدث الجلبة المعتادة التي رافقت العمليات القتالية الأولى في مستهل هذه المعركة.

يقول القائمون على صندوق «الطريق إلى أوكرانيا» -وهو صندوق يَتخذ من هولندا مقراً له، ويُعول عليه في جمع تبرعات «ضخمة» لمساندة الدفاع الأوكراني في المعركة- إنهم لاحظوا تراجعاً مطَّرداً ولافتاً في حجم التبرعات التي تصل إليهم، وأن هذا التراجع حدث مع ازدياد حالة «تعب الأخبار» التي أصابت المجتمع الدولي المتابع للحرب في أوكرانيا، كما تزامن مع زيادة الاهتمام بالحرب الدائرة في الشرق الأوسط.

حرب غزة كانت مسؤولة -كما يقول الأوكرانيون وبعض المتعاطفين معهم- عن تراجع الاهتمام الدولي بالحرب الأوكرانية؛ لكن حرب غزة نفسها ما لبثت أن وقعت في مأزق مماثل، حين برزت تحذيرات من بيوت خبرة إعلامية دولية، بأن «تعب الرحمة» (Compassion Fatigue)، بات يؤثر بوضوح في أنماط التعرض والتفاعل مع أخبارها.

ويُعد مصطلح «تعب الرحمة» حقيقة علمية مُتفقاً عليها، باعتباره صدمة نفسية ثانوية يشعر بها قطاع من متابعي الأخبار المأساوية، وتصيبهم بأعراض مرضية، وتقودهم إلى الانصراف عن المتابعة، وتُحد من قدرتهم على الإلمام بتطورات الحدث الذي سبَّب لهم هذه الأعراض.

سيفسِّر لنا هذا ما قد نراه من انصراف بعض قطاعات الجمهور عن المتابعة اللاهثة لما يجري في غزة، رغم أنهم مهتمُّون جداً بتطوراتها، وربما منحازون تماماً لأحد طرفيها، وسيفسِّر لنا أيضاً تراجع الاهتمام في غرف الأخبار بتفاصيل الحرب، والتشدُّد في المعيار الذي تُنتقى على أساسه أخبار الحرب لتتصدر الشاشات وعناوين الصحف.

على المخططين والقادة الانتباه إلى عاملَي «تعب الأخبار» و«تعب الرحمة» عند تصميم خططهم القتالية في غمار العمليات الميدانية؛ لأن هذين العاملين يؤثران بشدة في خطط الاتصال، ويضعفان فرص التعويل عليها.