أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

حرب غزة ولغز النفس البشرية

استمع إلى المقالة

هل تُنذِر حرب غزة بضرب المعنى الإنساني للقرن الحادي والعشرين؟ يُرجَّح ذلك. حرب غزة، وقبلها بأقل من عامين، حرب أوكرانيا، المستمرة بلا هوادة. وكما حدّدت الحرب العالمية الأولى، منذ عام 1914، هوية القرن العشرين، «قرن كل الأهوال»، ترسم الآن حربا غزة وأوكرانيا هوية القرن الحادي والعشرين.

ثمة فوارق كثيرة بين هاتين الحربين المشتعلتين في أوروبا والشرق الأوسط. لكن هناك سمات مشتركة لافتة، أهمها جموح الفكر القومي المتشدد، على الرغم من الاختلاف العميق بين المسألتين الفلسطينية والأوكرانية، وسط تناقضات ومتاهات إقليمية ودولية لا حصر لها، تَلفُّ الحربين بتضارب الرؤى. والمسألة ليست فقط مسألة رجلين، الحاكم الروسي والحاكم الإسرائيلي، اللذين اتخذا قرار الحرب. فالرجلان، على خصوصية شخصيهما وخطورة دوريهما، ليسا سوى تجسيد لقضيتين معقدتين تتخطاهما إلى حد بعيد، تفجرتا عبرهما.

لطالما برز التباين بين نظريتين أساسيتين في مسار التاريخ: النظرة المادية التي ترى أن الاقتصاد هو محرّك التاريخ، والنظرة «المثالية» التي تعد الفكر محرّك التاريخ. وبما أن مجرى التاريخ أمر بالغ التعقيد تندرج فيه عوامل كثيرة متشعبة، تختلف باختلاف الحالات، فلا بد أن يظهر في كل حالة عاملٌ أساسي تتمحور حوله سائر العوامل. في الحرب العالمية الأولى، التي رسمت عنوان القرن العشرين، برز العامل الاقتصادي الذي تشكلت حوله المسائل القومية والصراعات الدولية. لم تراهن ألمانيا في الأساس على حركة الاستعمار ولم ترَ فيها فائدة حيوية لها. لكن حين كبر إنتاجها الصناعي أضحت في حاجة إلى أسواق واسعة خارج القارة الأوروبية، فوجدت أن بريطانيا وفرنسا، على وجه خاص، قد استعمرتا العالم، ولم يعد من مكان للقوة الاقتصادية الألمانية الصاعدة. فبدأ التصادم الكبير.

أما في حالة حرب غزة وحرب أوكرانيا، اللتين ترسمان الآن عنوان القرن الحادي والعشرين، فالفكر القومي المتشدد هو العامل المهيمن، تتشكل حوله، في الشرق الأوسط كما في أوروبا عوامل كثيرة أخرى. حرب غزة، ليست سوى خطوة متهورة أخرى في مسار الفكر الصهيوني الاستيطاني المتطرف، الذي بعد أن استباح أرض فلسطين بكل الوسائل وهجّر شعبها، لم ينفك عن نفي وجود الشعب الفلسطيني نفياً قاطعاً وطمس هويته الوطنية، وفي خلفية عقله حلم «إسرائيل الكبرى». كان لا بد أن تتمحور حول هذا العامل الرئيسي عوامل أخرى، دينية إسلامية، وقومية عربية، واقتصادية، وجيوسياسية إقليمية ودولية.

وفي حالة الحرب الأوكرانية، يبرز الفكر القومي الروسي المتشدد كدافع رئيسي لاقتحام أوكرانيا (في غياب الصراعات الدينية الفاعلة في الشرق الأوسط)، تمحورت حوله عوامل آيديولوجية وجيوسياسية واستراتيجية، إقليمية ودولية. وهنا أيضاً، في خلفية عقل القوميين الروس المتشددين، حلم «روسيا الكبرى» الذي راود بطرس الأكبر، وجسَّده الاتحاد السوفياتي على طريقته.

لكن السؤال الكبير الذي يُطرَح: هل مسألة الحرب والسلم، لا حلّ بشرياً لها؟ وهل الحرب، هذا الشر الأعظم، هي قدر المجتمعات المحتوم، إلى الأبد؟

حمل الفكر العلمي والفكر التطوري اللذان سادا في الغرب في القرن التاسع عشر، تفاؤلاً كبيراً بتحقيق التقدم البشري، ليس في جانبه التكنولوجي فقط، بل في جانبه الإنساني أيضاً، وفي حل مسألة الحرب والسلم، وهذان الجانبان العلمي والقيمي متلازمان عميقاً في رؤية المستقبل لدى روّاد علم الاجتماع وعلم الحضارات (الأنثروبولوجيا الثقافية) وعلم التاريخ وعلم السياسة والاقتصاد وسواها. ففكرة التقدم الذي يحققه الإنسان (الذي أضحى هو محرك التاريخ، بدلاً من الإرادة الإلهية في القرون الوسطى الأوروبية)، هي فكرة محورية لدى أوغوست كونت، ولويس هنري مورغن، وأدوارد تايلور، وهيربرت سبانسر، وجايمس فرايزر، وكارل ماركس، وفريدريك أنغلز، وهنري برغسن، على سبيل المثال لا الحصر. وتحقيق التقدم العلمي والمعرفي، في هذا الفكر التطوري، متلازم مع تحقيق التقدم في الذات البشرية، الفردية والجماعية.

فما الذي حدث؟ على الرغم من الإنجازات العلمية والمعرفية المذهلة في المجتمع الحديث والمعاصر، لم يحصل تقدم يُذكر على المستوى الإنساني، خصوصاً في مسألة الحرب والسلم، التي هي الأهم. بل برزت وتبرز حركة معاكسة تماماً مفادها: كلما تقدمت العلوم والاكتشافات والمعارف، ازدادت الحروب ضراوة ووحشية. فهناك على هذا الصعيد، ويا للأسف، انفصام هائل بين البعد المعرفي والبعد القيمي في المجتمعات، يُنذر بأعظم الشرور.

جاءت الحرب العالمية الأولى لتشكّل صدمة مأساوية للفكر العلمي والتطوري في القرن التاسع عشر، لم يكن ينتظرها قط، أدت إلى تهاويه. وبعد انتهاء الحرب الأولى بعشرين عاماً، وقعت الحرب العالمية الثانية، الأشد هولاً بما لا يقاس، وانتهت بإلقاء القنبلتين النوويتين الأميركيتين للمرة الأولى في التاريخ على هيروشيما وناغازاكي. وشهد الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، أعمال تهجير وإبادة قضت على الكثير من المجتمعات والثقافات، على يد جوزيف ستالين وماو تسي تونغ. وعندما ننظر الآن إلى حصيلة حروب القرن العشرين، على مستوى أوروبا الغربية مثلاً، التي كانت هي قلب تلك الحروب، فماذا نرى؟ نرى أن أمم أوروبا الغربية الكبرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهي من الأكثر تطوراً في العالم، قد ضربت نفسها بنفسها. فالحربان العالميتان الأولى والثانية، هما في الحقيقة حرب أهلية أوروبية غربية كبرى، جرّت معها روسيا والولايات المتحدة واليابان وغيرها، وأدّت خلال ست سنوات فقط إلى مقتل 80 مليون أوروبي، مدني وعسكري، وإلى دمار عمراني وتراثي واقتصادي هائل، أفقد «القارة القديمة» سيطرتها على العالم، حيث ارتفعت على أنقاضها قوتان كبريان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. حين ننظر اليوم إلى ما جرى، نرى مساراً من التدمير الذاتي الأوروبي المذهل، المتسم بالجموح واللاعقلانية وانعدام الرؤية، لدى الأمم المفترض أنها الأكثر علمية وعقلانية. ألم يكن من سبيل آخر لحل الخلافات غير تلك الحروب؟

واليوم أليس من سبيل لحلّ مسألة غزة ومسألة أوكرانيا غير الحرب؟ لقد ارتضى الفلسطينيون قبل ثلث قرن بحل الدولتين، ووافقوا على إقامة دولتهم فوق 28 في المائة فقط من أرضهم المغتصبة، فماذا يريد الصهاينة المحتلون أكثر من ذلك؟ وتخلّت أوكرانيا لروسيا عن شبه جزيرة القرم في عام 2014، وتخلّت طوعاً عن ترسانتها النووية، وكان يصعب انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، الذي كان قد فقد في أي حال معناه ودوره، ولا طموح لها غير العيش بحرية، فما الذي يريده غلاة القوميين الروس؟

هذا الانفصام، الذي لا خلاص منه، بين التقدم العلمي والمعرفي من جهة، والعنف المدمّر، من جهة أخرى، هو أحد ألغاز النفس البشرية، وهو لغز كبير يصعب سبر أغواره.

يقول هاملت في رواية شكسبير: «ثمة شيء مهترئ في مملكة الدنمارك»... وفي الحقيقة، ثمة شيء مهترئ في مملكة البشر، في كل زمان.