د. ياسر عبد العزيز
TT

مكارثيتان... وفسطاطان!

استمع إلى المقالة

على هامش حرب غزة تدور معركة ثانية؛ وهي معركة لا تقل صخباً ولا ضجيجاً عن الأولى؛ غير أنها لا تُعمد بالدم والنار، ولا تشهد «قتلى» ولا «شهداء»، ولا أطفالاً ينزفون جراء القصف، ولا مسنين قيد الأسر.

في ساحة المعركة الثانية تلك، تجري إحدى كبريات عمليات «إدارة الإدراك» Perception Management، ضمن حرب صور ومعلومات وعواطف، لن تُحسم نتائج المعركة الأولى من دون دعمها ومساندتها.

للحروب -كما لغيرها من العمليات السياسية- جانبان: أحدهما جانب مادي، يُحسم في الميدان، وثانيهما جانب معنوي، تحدده أدوات «القوة الناعمة»، وعلى رأسها الإعلام. وكما يجد القادة الذين يتخذون قرارات شن الحروب «ذرائع أخلاقية» لتسويغ قتل المدنيين أو ذبح الأطفال، فإن فِرَق الاتصال التي تنخرط في «الحرب المعنوية» لا تخفق أبداً في إيجاد «ذرائع أخلاقية»، لتسويغ التلاعب بالرأي العام، والكذب، وممارسة الإرهاب الفكري.

ومن بين أبرز الأدوات التي استُخدمت بمواكبة حرب غزة الراهنة أداتان فعَّالتان: أولاهما المكارثية، وثانيتهما فرز جمهور الحرب إلى قسمين، أو قولبته في فسطاطين.

تُستخدم الأداتان على نطاق واسع وبنهم وشغف شديدين، ويحدث هذا في الشرق كما يحدث في الغرب، ومجاله يتوزع على الوسطين الإعلاميين «التقليدي» و«الجديد».

نحن نعرف المكارثية، ونسمع هذا المصطلح يتردد كثيراً منذ منتصف القرن الفائت، حين دشَّن السيناتور الأميركي اليميني جوزيف مكارثي فكرته في أجواء الحرب الباردة، ليضغط على السياسيين والمفكرين والإعلاميين في الولايات المتحدة والغرب، ويحرمهم من إبداء أي رأي مخالف، ويُسهل «محاربة الشيوعية والشيوعيين»، عبر قمع الآراء المخالفة، وتخوين أصحابها، مهما ابتغوا تنويراً أو إنصافاً.

لقد انتقلت المكارثية إلى أجواء حرب غزة، وهيمنت على ساحة المعركة الثانية في ميادين الإعلام المختلفة، وكلما زادت حدة القصف وضراوة الاشتباكات على الأرض، وتواترت أنباء القتل والتدمير، تغوَّلت النزعة المكارثية وارتفعت معدلات استخدامها.

وفي الغرب الذي يقدم نفسه بوصفه موئل الحريات، وحصن حقوق الإنسان، يتم طرد صحافيين من عملهم في وسائل إعلام كبرى؛ لأنهم أدلوا بآراء تغاير المنظور المُراد تعميمه، أو يتم إيقافهم عن العمل والتحقيق معهم. وتتعاظم الضغوط على وسائل إعلام كبرى، لكي ترسي تنميطاً معيناً لأحد طرفي الصراع. وعندما تتوسل تلك الوسائل بأدلتها التحريرية وبيانات القيم المهنية والأخلاقية التي تعتمدها، والتي تمنعها من الحكم على أطراف الصراعات، لا يُسمع صوتها، ولا تُقبل حججها.

وفي عالم وسائط «التواصل الاجتماعي»، تجتهد الحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية في الضغط على شركات التكنولوجيا العملاقة التي تديرها، لكي ترسي سياسات استخدام تواكب المنظور المُراد له التعميم وتخدمه. وعندما تخرج إحدى تلك الوسائط عن الخط المرسوم، فإنها تُعاقب بالمقاطعة، أو بتلطيخ السمعة، والوعد بتكثيف الضغوط، لكي تتسق الرسائل كلها وفق المسار المرسوم.

وفي الشرق، لا يبدو الأمر مختلفاً، وسيظهر هذا بوضوح في تداول «قوائم سوداء» لمن يُعتقد أنهم لا يسايرون الرواية المُراد لها أن تسود. وسيُعاقب مذيعو وسائل الإعلام «التقليدية» الذين يوجهون الأسئلة «الصعبة والمحرجة»، أو يستضيفون مصادر بعينها، بتلطيخ السمعة، وبالشتائم النابية.

وفي «غروبات واتساب»، سيُحرم كل من يطرح رأياً مخالفاً للرواية المُراد لها التعميم من الكلام، أو سيُوصف بأبشع الصفات، وسيُتهم في عِرضه، ودينه، وأمانته. وقد تُختلق له هوية دينية واجتماعية تقصيه من «الجماعة القومية والدينية المناضلة»، وتبقيه مُستباحاً بلا شرف.

وعندما يُدلي أحد المهنيين برأي يُفهم منه أنه سيواصل عمله في مجاله الذي ينشط فيه رغم استمرار الحرب، فسيُتهم بالخيانة والعمالة، وفي الحد الأدنى بأنه مرتزق ومتبلد الإحساس.

وبسبب الفاعلية الكبيرة لأداة المكارثية، فإن الأداة الثانية -أي فرز الجمهور إلى قسمين في فسطاطين- ستضحى قابلة للتفعيل، وعبرها سيجري تمييز الناس بين «فسطاط الكفر» و«فسطاط الإيمان»، وفق التعبير الذي استخدمه بن لادن، أو «فسطاط أبناء النور» و«فسطاط أبناء الظلام» وفق التعبير الذي استخدمه نتنياهو.

وفي الغرب -كما في الشرق تماماً- يتحدث مفكِّرون، ويشكو محللون من خطورة عملية الفرز التي تجري راهناً، والتي تضع قيوداً على التعبير عن الرأي بحرية، وتتوعَّد أصحاب بعض الآراء بالإقصاء أو الاستهداف أو تلطيخ السمعة، لمجرد أنهم لم ينخرطوا في الرواية المُراد لها التعميم، أو لأنهم رأوا شيئاً يختلف عمَّا يراه الآخرون في تلك الحرب الصادمة والمأساوية.

تنطوي حرب غزة على مآسٍ هائلة، وتجلب خسائر لن يكون من السهل إحصاؤها، ومن بين تلك الخسائر أنها أعادت حرية الرأي والتعبير إلى حالة كنا نظن أن العالم تخطَّاها منذ عقود.