يقول محمد حسن عبد الله في كتابه «الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ»: «لقد انتهى (عبد الوهاب إسماعيل) إلى التطرف، بل إلى التناقض مع دعوة الإسلام في صميمها، وأحسب أن السارد قد اطلع على كتاب (معالم في الطريق) – هذا إذا استقر الرأي على حقيقة الشخصية – ومن ثم فإنَّ هذا تأويله لما ورد في هذا الكتاب المذكور، وقد أصيب (عبد الوهاب إسماعيل) بطلقة قاتلة مثل سيد قطب، وقد كان باستطاعة السارد أن يغني هذه الشخصية، وأن ينظر إليها نظرة إنسانية، حتى وإن كان يرفض التعصب، لأنه بهذا المسلك قد تعصب ضدها، وكان ينبغي عليه – من الوجهة الفنية الخالصة – أن يكشف أمامنا أعماق (عبد الوهاب إسماعيل)، ويبرر لنا لماذا انقلب ثم تعصب!! لا يكفي البحث عن بريق الشهرة سبباً لإيثار السجن ثم الموت. لا بد أن يكون الأمر أشد تعقيداً من هذه العبارات الإخبارية الساذجة التي لم تبارح السطح، وتجربة سيد قطب - على هذا الافتراض - تجربة معقدة بعيدة الجذور، ومهما كان تفسير نجيب محفوظ للدعوة السلفية فإنها لم تتورط إلا على يد الجهلاء - وليس يد سيد قطب منهم - في معاداة الحضارة أو العلم، وإن رفضت عبادة الحضارة الأوروبية أو اتخاذها مثالاً أو غاية الطموح».
قال محمد حسن عبد الله بهذه المرافعة المغلوطة تعليقاً على قول الراوي نجيب محفوظ إن «عبد الوهاب إسماعيل» حمل على العلم حملة شعواء، فسأله بذهول واستنكار: حتى العلم؟
فأجابه «عبد الوهاب إسماعيل»: «نعم لم تتميز به، نحن مسبوقون فيه، وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لدينا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وهي كفيلة بإنقاذ العالم وخلاصه، فعندنا العدالة الاجتماعية والأخوة الإنسانية، وعبادة الله وحده، لا رأس المال ولا المادية الجدلية».محمد حسن عبد الله ليس من «الإخوان المسلمين»، وليس ممن يصطلح على تسميتهم الإسلاميين، لكن مرافعته المغلوطة عن سيد قطب تعكس مناخاً سياسياً وفكرياً سائداً في السبعينات وشطراً من الثمانينات الميلادية عند غير الإسلاميين يروج فيه الدفاع العاطفي عن سيد قطب.
كان من اليسير على الريسوني وعلى محمد حسن عبد الله أن يحسما أن «عبد الوهاب إسماعيل» هو سيد قطب. فشخصية «عبد الوهاب إسماعيل» – بخلاف الشخصيات الأخرى – فيها قدر من التطابق مع حياة سيد قطب في مرحلتيه الأدبية والإسلامية الأصولية، وقدر من التطابق مع طبائعه الشخصية وصفاته الجسدية مثل إشارته إلى جحوظ عينيه. فنجيب محفوظ لم يحوّر في الصورة التي رسمها لشخصيته إلا في أمور ثلاثة، هي: الأول، جعله أزهرياً. وأنه حكم عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً، وأنه غادره عام 1956، والصحيح أن المدة التي حكم عليه بالسجن فيها هي خمسة عشر عاماً، وأنه غادر السجن عام 1964، قبل استكماله مدة عقوبته. وأن مقتله جاء بسبب مقاومته القوة التي ذهبت للقبض عليه، فأصيب بطلقة قاتلة.
حديث محمد حسن عبد الله عن شخصية «عبد الوهاب إسماعيل»، كما رسمها نجيب محفوظ في كتابه «المرايا»، من أوله إلى آخره يعج بالأخطاء. ففي أول حديثه عن هذه الشخصية عدّها تمثل التأثر الإيجابي بالدين. والعكس هو الصحيح.
يقول محمد حسن عبد الله: إنه لا يعنيه أن يكون صحيحاً أن «عبد الوهاب إسماعيل» هو سيد قطب، وإنه ليس من مهمته البحث عن أصول هذه الصورة السريعة. فكل ما يعنى به دلالتها على فكر الكاتب، ومدى ما فيها من صدق أو زيف من حيث البناء الداخلي والدلالة الاجتماعية التي تدعم المبدأ الأساسي في فن الرواية، وهو البناء الشامل للرواية!
إن معرفة أن «عبد الوهاب إسماعيل» هو - فعلاً - سيد قطب يساعد كثيراً في تحقيق ما يعنيه وما يهمه.
لقد أوقع محمد حسن عبد الله نفسه في تناقض مع قوله السابق. فإن كان لا يعنيه ولا يهمه أن يكون صحيحاً أن «عبد الوهاب إسماعيل» هو سيد قطب. فلماذا أنشأ مرافعة خطابية حماسية عن سيد قطب المعادي للحضارة والعلم؟!
في عدد ديسمبر (كانون الأول) من مجلة «الهلال» عام 1988، كان من موضوعات الغلاف موضوع عنوانه «نجيب محفوظ وسيد قطب». هذا الموضوع عبارة عن ملف لم يذكر اسم معدّه. وهذا الملف مكون من مواد أرشيفية.
المادة الأولى، مقال لسيد قطب عن رواية نجيب محفوظ «كفاح طيبة»، نشر في مجلة «الرسالة»، العدد 587 – أكتوبر (تشرين الأول) 1944.
المادة الثانية، مقال لسيد قطب عن رواية نجيب محفوظ «خان الخليلي»، نشر في مجلة «الرسالة»، العدد 650، ديسمبر 1945.
المادة الثالثة، مقال لسيد قطب عن رواية نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة»، نشر في مجلة «الرسالة»، العدد 704، ديسمبر 1946.
المادة الرابعة، مقال لنجيب محفوظ عن كتاب سيد قطب «التصوير الفني للقرآن» نشر في مجلة «الرسالة»، العدد 616، أبريل (نيسان) 1945.
المادة الخامسة، هي الصورة التي قدمها نجيب محفوظ لشخصية «عبد الوهاب إسماعيل» في «المرايا». ونشرت هذه المادة تحت عنوان «المرايا: من هو عبد الوهاب إسماعيل الذي رسم ملامحه نجيب محفوظ؟». وقدمت «الهلال» لهذه المادة بهذا القول: «كان هذا الفصل من المرايا لنجيب محفوظ يرسم شخصية سيد قطب، ويوجز تاريخ حياته في مفاصلها الرئيسية، إنما بقدرة الفنان الذي يضمر بقدر ما يفصح، ويستخدم الإبهام ببراعة فذة، حتى لا يكشف عن سر معرفته بشخوصه، فيلقي هذا العبء على القارئ الأريب».
وعن طريق مجلة «الهلال» الذائعة، وعبر هذا العدد، ذاع عند القارئ العام أن «عبد الوهاب إسماعيل» هو سيد قطب.
قد يكون الذي أعد الملف رئيس تحرير مجلة «الهلال» وقتذاك مصطفى نبيل. فهو عمل مع أحمد بهاء الدين في مجلة «العربي» بالكويت من أواخر السبعينات إلى منتصف الثمانينات. فهو قد يكون سمع بهذه المعلومة من محمد حسن عبد الله الذي كان من أعضاء الجماعة المصرية الأكاديمية والمثقفة في المجتمع الكويتي في ذلك الوقت، أو أنه قرأها في كتابه عن نجيب محفوظ.
بعد مرور ثلاث سنوات وأربعة أشهر من نشر مجلة «الهلال» لذلك الملف الأرشيفي، نشرت مجلة «الفيصل» في العدد 188، أغسطس (آب) 1992، ردّاً متأخراً كتبه محمد رجب البيومي، وكان عنوانه «بين سيد قطب ونجيب محفوظ». نشره في هذه المجلة ولم ينشره في مجلة «الهلال» التي كان هو من كتابها.
الأستاذ الجامعي، والدارس والأديب والناقد، محمد رجب البيومي، لفرط حماسته في الدفاع عن سيد قطب، اعتقد أن ما نشرته مجلة «الهلال» تحت عنوان «المرايا: من هو عبد الوهاب إسماعيل الذي رسم ملامحه نجيب محفوظ؟» هي كلمة كتبها نجيب محفوظ خصيصاً لمجلة «الهلال»، لنشرها في ذلك الملف الأرشيفي، وغفل أن هذه المجلة نبهت إلى أن هذه المادة مأخوذة من كتابه «المرايا». ولم يكن يعلم أن هذا الكتاب كتاب قديم، صادر في طبعته الأولى عام 1972.
وهو لم يكن يعلم أن محمد المنتصر الريسوني في مقاله «الإخوان المسلمون في مرايا نجيب محفوظ»، المنشور في مجلة «المجتمع» بتاريخ 23 يناير/ كانون الثاني 1973، أورد اسمه مثالاً لتملق الحكم القائم في مصر!
يقول الأستاذ الريسوني: «الأستاذ نجيب محفوظ بحكمه السابق يحاول تملق الحكم القائم، وقد يؤيد هذا واقع مشهود عند بعض البحّاث في مصر حين تصديهم للحديث عن الحركة التفسيرية للقرآن الكريم، وذلك أنهم في أبحاثهم كلما انتهى بهم البحث عن المفسرين تغافلوا تفسير الشهيد الأستاذ قطب رحمه الله ودراساته الأخرى. وأذكر على سبيل المثال فقط الأستاذ محمد رجب البيومي في كتابه (خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم) – سلسلة البحوث الإسلامية، الكتاب الثاني والأربعون، الذي عقد فيه فصلاً تحت عنوان (مع المعاصرين)، فذكر فيه الأستاذ الخولي رحمه الله، والأستاذ محمد خلف الله، والأستاذ محمد عبد الله دراز، ولم يشر من قريب أو بعيد - ولو في الهامش- إلى كتاب (التصوير الفني في القرآن)، رغم أنه تحفة أدبية في التفسير البياني تضع صاحبها - بالإضافة إلى (في ظلال القرآن) و(مشاهد القيامة في القرآن) وغيرها في الدراسات الإسلامية – في عداد المفكرين الأفذاذ في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر».
والحق أن الريسوني لتعصبه لسيد قطب تغافل عن أن البيومي في حديثه عن التفسير البياني المعاصر للقرآن الكريم، اقتصر في أمثلته على الأساتذة الجامعيين. وقد ذكر اسم الإسلامي السوري محمد المبارك وكتابه «من منهل الأدب الخالد» بصفته الجامعية، وهي أنه كان أستاذاً في جامعات سوريا والسودان ومكة.
إن مثال الريسوني لتملق الحكم القائم في مصر، وهو كتاب البيومي الصادر في ديسمبر (كانون الأول) عام 1971، مثال خاطئ للسبب الذي ذكرناه.
إن عدداً كبيراً من الأدباء والمثقفين المصريين يختلفون مع «الإخوان المسلمين» ومع أطروحة سيد قطب الأصولية إلى حد جذري، ليس لأن «الإخوان المسلمين» خاضوا صراعاً سياسياً وآيديولوجياً مع السلطة ما قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، وبعدها، وليس لأن سيد قطب خاض هو الآخر ذلك الصراع مع السلطة الأخيرة، وإنما يختلفون مع أطروحة «الإخوان المسلمين» ومع أطروحة سيد قطب لأسباب سياسية وأيديولوجية ومنهجية خاصة بهم.
إن الريسوني لا يعلم أن البيومي في مطلع شبابه كان من «الإخوان»، وأنه انفصل تنظيمياً عنهم، لكنه لم ينفصل عاطفياً وفكرياً عنهم. وأنه في عام 1952 في مجلة «الرسالة» صاول محمود محمد شاكر في الدفاع عن سيد قطب وعن كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» لرد انتقادات الثاني التي كتبها في مجلة «المسلمون» الإخوانية لهذا الكتاب بمناسبة صدور طبعة جديدة له في ذلك العام. وأنه جالد في آخر ذلك العام عز الدين إسماعيل في مجلة «الرسالة» دفاعاً عن هذا الكتاب، وعن كتب أخرى له، كـ«التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن» و«النقد الأدبي: أصوله ومناهجه». وهذه الكتب الأربعة كان شملها عز الدين إسماعيل بنقد قارص في مقالة نشرت بمجلة «الثقافة».
وهو لا يعلم أن البيومي مثله متعصب لسيد قطب. وأنه ظل على موقفه المتعصب له طيلة حياته. وللحديث بقية.