سمير التقي
TT

أمام أخطر منعطف في تاريخ البشر ماذا سيفعل السياسيون؟

استمع إلى المقالة

حسب أهم خبراء الذكاء الاصطناعي والأمن المعلوماتي، تفصلنا خمس سنين أو أقل، عن أهم وأخطر منعطف في تاريخ البشر. لم يتعرضوا له قبلاً، ولا يدركون أبعاده وتحدياته. يُحذر الخبراء من التخلف البائس لصانعي السياسة والرأي، بأدواتهم العتيقة، مثل الإنترنت والبريد الإلكتروني، عن الرَّكْب المتسارع والوشيك لهذا التحدي. ويذكرون بتهكم كبير جلسة الاستماع في الكونغرس الأميركي مع مارك زوكربرغ، مدير «فيسبوك»، ليظهر جهلهم عارياً ومعلناً أمام التكنوقراطيين الشباب.

يقول الأنثروبولوجيون إن البشرية مرت بشيء مشابه وإن يكن أقل خطورة. كانت أقوام البشر تقتات على قطاف الثمار والحبوب مما تتيحه الطبيعة عفوياً. ثم جاءت الزراعة، قفزة نوعية وفّرت للبشر قدراً كبيراً من الطاقة الكثيفة الكامنة في القمح والأرز. سمح هذا التطور العاصف بنشوء مدن وإمبراطوريات ما بين النهرين والنيل والنهر الأصفر، إلخ. وبفضل هذا «السلاح الاستراتيجي»، تمكنت الأقوام الزراعية من إخضاع الأقوام التي لا تمتلك الأرض والمعرفة الزراعية. نهاية الأمر استسلمت الشعوب التي فاتها التطور الزراعي. وأصبحت، تحت ضغط المجاعة، طوعاً أو حرباً، جيوشاً من العبيد، تعبد ملوك الحضارات الزراعية.

وفي الحديث عن الزراعة، يقول هؤلاء الخبراء إن البشرية تمكنت من تخفيض العمل اللازم لإنتاج طن من القمح بمقدار خمسين مرة والآن من المتوقع أن استخدام الذكاء الاصطناعي المطبّق في الزراعة خلال السنوات الخمس المقبلة سيخفض تكاليف الإنتاج مئات، بل آلاف المرات. وسيتحقق ذلك لمن يملك التقنية والعلم.

لا يفهم الكثيرون روعة وهول ما نحن مقبلون عليه حتماً. حسب كل المعطيات، لن يكون من الممكن منع انتشار تقنية الذكاء الاصطناعي. ومع دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة القدرة على القرار، والفعل، ستتغير جذرياً معايير واعتبارات القوة والسلطة والسيادة في العالم، وسيتغير معها توازن القوى بين البشر، وميزان القوى بين الدول وميزان العلاقة بين الدولة والشركات العملاقة، ناهيك بتداعي الكثير من خصوصية الأفراد.

انطلقت عام 2010، برامج «التفكر العميق Deep Mind»، في تجميع ومعالجة ذلك الكم الهائل من المعطيات عن كل شيء معروف من نصوص وصور وأفلام وأصوات، وتحويله لمعلومات رقمية مصنفة، ليعالجها الذكاء الاصطناعي عبر «التعلم العميق» ويُعيد تشكيلها. لكن منذ 2020 تقريباً، وصل تصنيف المعطيات إلى مستوى من التعقيد والجودة، يسمح بالتعلم الذاتي.

فما المقصود بالتعلم الذاتي؟ لا يكتفي الذكاء الاصطناعي بتشبيك وإعادة هيكلة المعلومات التي يُلقنها، بل يبدأ في تدريب نفسه على المهام الواقعية، ليصوّبها عبر الخطأ والصواب. ليثبت قدرته الفائقة على تطوير ذاته وبرامجه وقدراته، ولتصبح نتاجاته غاية في التعقيد والإبداع الأصيل، في بيئات أكثر تجريداً. وليبدأ، من عندياته، في الإنتاج الإبداعي بتأليف الموسيقى والأفلام والحلول الاستراتيجية وينفّذها دون اضطراره إلى العودة للبشر. نعم صار هذا الكائن الاصطناعي «يتعلم»، «يفكر»، والأهم أنه يقرر ويفعل. بل يصحح أخطاءه أولاً بأول، حسب النتائج اللحظية لأعماله.

كان هذا المسار متوقعاً منذ 2010، كان، لكن ليس بهذه السرعة الصاعقة التي تتضاعف هندسياً عشر مرات كل عام!

تقديراً، وخلال خمس سنوات، ستحيط بنا كائنات الذكاء الاصطناعي، بتجليات مختلفة. يمكنها التحدث بطلاقة وبلغة طبيعية، ويمكنها التفاعل والفعل مع العالم المادي، بل يمكنها خلق عوالم افتراضية لكل مشكلة تسمح بالتنبؤ والتخطيط لكل من سيناريوهاتها. ستتحادث وتتشاور وتتكامل هذه الكائنات مع البشر ومع الكائنات المشابهة. وفجأة تصبح تلك الكائنات الذكية مستقلة، ومسخَّرة لخدمة صانعيها.

فمَن صانعوها؟ إنها شركات التقنية العملاقة التي قد تتحالف مع بعض الدول الكبرى في احتكار عصب هذا الذكاء.

وعصب هذا الذكاء، رقائق السيليكون! وهي تنقسم لرقائق منخفضة الدقة (نستعملها الآن في حياتنا اليومية) ومتوسطة وعالية وفائقة الدقة. الشرائح الفائقة هي وحدها التي تتحكم في الذكاء الاصطناعي. ولقد اندلعت منذ الآن حرب الرقائق الإلكترونية بشكل شرس ودون رحمة.

تدّعي الولايات المتحدة أنها تمكنت من تكوين تحالف استراتيجي احتكاريّ للسيطرة على سلاسل إنتاج الرقائق الفائقة، مع اليابان شريكتها الوحيدة في القدرة على برمجة الرقائق، ومع هولندا المتفردة في إنتاج الليزر الفائق، وألمانيا لصناعة العدسات الفائقة. ليتم تجميع أغلبها في تايوان. وفي المقابل توظف الصين في هذا السباق المحموم مئات المليارات في تقنية الرقائق والذكاء الاصطناعي. فالقضية هنا ليست تجارية بل استراتيجية.

فماذا تجلب موجة الذكاء الاصطناعي بالنسبة إلى القرارات الاستراتيجية؟

عملياً، نرى منذ الآن كيف يخترق الذكاء الاصطناعي المتضافر مع الحوسبة الكمومية (Quantum computing) نظم المعلومات، ويصنع الفيروسات واللقاحات افتراضياً لا في المخابر، ويوجه أسراباً من آلاف المسيّرات، كلٌّ على حدة في معارك فعلية، ويتلاعب بالرأي العام، ويوجه الانتخابات، إلخ. نحن نلمس ذلك يومياً.

لكن الأهم هي قدرة الذكاء الاصطناعي المتضافر مع الحوسبة الكمومية، على دعم القرار الاستراتيجي بشكل مدهش. يعالج الذكاء الاصطناعي الكمّ الهائل من المعطيات التي يتلقاها كل ثانية عن متغيرات الأمن القومي، بدءاً من الثقافة وتحولات الرأي العام، إلى نموذج الدولة والاقتصاد والحكم، وموازين القوى والصراعات الاجتماعية والإثنية، إلخ. ليتوصل بشكل مبكر جداً إلى التنبؤ أو التخطيط للتأثير في المخاطر والأزمات قبل حصولها بزمن طويل. فلو انتظرنا حتى يدرك البشر حقيقة الأزمة، تكون قد صارت غالباً غير قابلة للارتداد ويكون تحديد مخاطرها مستحيلاً. لكنّ الخوارزميات (التي يمكن وصفها بسلاسل الاستنتاج المنطقية) للذكاء الاصطناعي صارت تسمح له باستباق مبكر جداً للأزمات الاستراتيجية، ليعزز الذكاء الاصطناعي «حكمة وصوابية» القرار الاستراتيجي وقدرته على التأثير في الأزمات.

وإذ تتحكم حفنة من الشركات وعدد محدود من الدول بهذه الموارد، يولَد لدينا نظام عالمي جديد، منفصل تماماً عن نظام الأمن الدولي التقليدي. ويمتلك هذا النظام قوة جيوسياسية مستقبلية كاسحة. بل يتحكم هذا التحالف بمقدّرات مالية ومعلوماتية وفيزيائية خارجة تماماً عن سيطرة النظام العالمي التقليدي الراهن.

تدخل البشرية مرحلة طبقية جديدة، يتراتب فيها البشر والشركات والدول والمجتمعات، حسب مستوى امتلاكها وسيطرتها على القاطرة الجامحة للذكاء الاصطناعي. سينعكس ذلك عاجلاً على علاقات العمل، وعلاقات الشركات بالدول، وعلاقات الأمن بالتقنيات، وصولاً لهيمنة التقنية على الثقافة والقيم.

استراتيجياً، يدخل العالم فيما يمكن تسميته بـ«ما بعد فستفاليا»!

في صيغة فستفاليا التي تأسس عليها عالم اليوم، كانت الدولة، هي اللَّبِنة والإطار الذي يحدد علاقة الفرد بدولته، ويحدد علاقة الدول بعضها ببعض. ولم تكن لأيٍّ من الشركات السلطة ولا القدرة على التحكم. أما الآن فإن الغالبية الساحقة للدول، لا سلطة ولا سيادة لها على فضائها الرقمي. إنها الشركات وليست الحكومات، التي تضع القواعد.

تتنبه الدول، بشكل متسارع، إلى مخاطر ترك هذا الكائن الذكي سائباً دون ضبط وتحكم من المجتمعات. إذ تتناقض مصالح الشركات التقنية الكبرى في كثير من الأمور مع مصالح البشر ودولهم ومجتمعاتهم. تجني الشركات الأرباح الأسطورية. لذلك يطالب الخبراء بأن تتحمل هذه الشركات العواقب السلبية لهذا الانعطاف، وتسهم في معالجة القضايا الناجمة عنها، سواء على مستوى كل دولة بمفردها أو على الصعيد الكوني. كل ذلك، إضافةً إلى الأهمية، ضبط هذا الذكاء الاصطناعي من أن يصبح أداة بيد جيوش المخترقين الإجراميين الفرديين والجماعيين.

ليس هذا الكلام خيالاً! إنه واقع زاحف أمام أعيننا. وكما وُضعت الضوابط لإدارة النقد الدولي لمنع تزويره والتلاعب بأموال البنوك، وكما وُضعت الضوابط للسلاح النووي لتفادي كارثة كونية نووية، وكما تم ضبط انتشار المخدرات، يُفترض أن تبدأ الدول عملاً كثيفاً لتأهيل المجتمع وجيل السياسيين والنخب للتعاطي مع هذا التحول.

رغم بيروقراطيته الشديدة، تمكنت نخبة من أرفع الخبراء، من إقناع الاتحاد الأوروبي بالعمل الكثيف لوضع الضوابط للذكاء الاصطناعي، وخلق تحالفات وشراكات بينه وبين الشركات التقنية العملاقة، لكنّ الولايات المتحدة ما زالت تحبو، ناهيك بعالمنا العربي!