خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل أتاك حديث التعطيل؟

استمع إلى المقالة

مجموعة من ستة أصدقاء يعيشون معاً، يحب كل منهم نشاطاً ترفيهياً متاحاً يوماً في الأسبوع، وليكن من الأربعاء إلى الاثنين، وهم الآن يتفاوضون على يوم يخرجون فيه للترفيه. أمامهم عدة خيارات؛ الأول أن يفعل كل منهم ما أراد في يوم نشاطه المفضّل، والثاني أن يتفقوا على تجربة مختلفة، كل أسبوع، فتكون فرصة للتعرف على أنشطة جديدة. هذان الحلّان كلاهما صحي ومفيد، ولا يَحرم أحداً من رغبته.

المشكلة في الخيار الثالث، أن تفرض الجماعة على أفرادها أن يختاروا يوماً واحداً لا يعترض عليه أحد. في هذه الحالة، لن يفعل أحد شيئاً، وستختار المجموعة غالباً أن تخرج معاً يوم الثلاثاء، وهو اليوم الوحيد الذي لم يكن الاختيار المفضل لأي من أفرادها.

لاحظت من أسفاري في الدول المأزومة اقتصادياً أنها تختار في إدارة سياستها خيارات شبيهة بذلك الخيار الأخير. تتصرف هذه الدول وكأن السياسة إرث ضخم تركه الرجل الكبير لأبنائه مقروناً بوصية؛ ألا يتحركوا خطوة إلا بموافقة الجميع. وهنا، بالضبط هنا، تبدأ المشكلة الخدّاعة. يبدو من ظاهر النصيحة أنها ستحقق التوافق، لكنها في الحقيقة لن تحقق سوى التعطيل. الإخوة في الواقع العملي، وهذا طبيعي، لن يتفقوا على شيء واحد أبداً، وسوف تتجمد الثروة في مكانها مثل «البيت الوَقْف» حتى تذبل وتضيع.

لبنان البلد الوحيد الذي يسمِّي هذه الثقافة السياسية باسمها. في تشكيل الحكومة لديه مفهوم يسميه أصحابه «الثلث الضامن»، ويسميه خصومه «الثلث المعطل». ولهذه التسمية الصريحة فضلٌ عليّ. لقد فتحت عينيَّ على الثقافة المشتركة التي أحدِّثكم عنها، ثقافة التعطيل، الثقافة التي تنتج أزمات اقتصادية لا تنتهي.

ما يميز لبنان عن غيره أن الثقافة لها اسم واضح فقط، أما الثقافة نفسها فمنتشرة بكثرة في غيره من البلدان وعلى أكثر من مستوى. من الفرد إلى الدولة إلى مجموعات الدول. على مستوى الفرد، لا يكتفي الشخص بأن يفعل ما يحب أن يفعل، بل يريد أيضاً أن يملك القدرة على منع الآخرين من ممارسة حياة يختارونها، ويعتقد أن هذا حقه، وواجبه تجاه الجماعة، بل إن رغبته في قمع حرية الآخرين تعلو رغبته في ممارسة حياته بطريقته. يُذكّرني هذا بالنكتة المصرية عن رجلين سِيقا إلى الإعدام، وكان أحدهما سمجاً. سُئل أولهما عن وصيته الأخيرة فطلب أن يرى أمه، وسُئل السمج فطلب ألا يرى الرجلُ الأولُ أمه.

على المستوى الأعلى، لاحظت أن تلك الدول تديرها، وغالباً من وراء ستار، عدةُ جهات تملك كل منها القدرة على التعطيل. مرة باسم أخلاق المجتمع، ومرة باسم الدين، ومرة باسم القضية القومية، ومرة باسم العدالة الاجتماعية، ومرة باسم التناغم الطبقي، أو السيادة الوطنية، أو باسم الثورة المجيدة. يعطل هذا الفريق جزءاً، ويعطل هذا جزءاً، حتى لا يتبقى أمام الدولة من خيارات سوى ممر ضئيل لا يتغير ولا يتبدل عبر العقود. مهما كانت النتائج فاشلة. فالمهم - كما نعلم - هو التوافق، وليس الإنجاز. باسم هذا التوافق أيضاً رأينا، في عقود سابقة، هيمنة أفكار القومية العربية، التي ألجمت طموح الدول المنفردة، وعطّلت فرصها.

لاحظتم مما سبق أن المعطلين لن يقولوا أبداً إنهم معطلون، بل سيقدمون مبررات سامية، وقد يَعِدون وعوداً كبرى ليست في أيديهم، ولا هي من أغراض السياسة ووسائلها، منها أن يفتح الله علينا أبواب الرزق إن تحجبت النساء، أو أن ننتصر في المعركة ضد الاستكبار العالمي إن حاربنا الغرب والكيان الصهيوني. وعوداً كبرى تتضاءل إلى جوارها الأغراض التافهة التي ننالها من السماحة، تتضاءل إلى جوارها الحياة اليومية السعيدة. نرى فئة تعطل السياحة، وفئة تعطل الاستثمار، وفئة تُضيّق على المخالفين في الدين، من جيران العمارة إلى جيران العالم، وفئة تحارب الفنون والآداب، وفئة تقاطع جوارها الغربي في الخريطة، وأخرى تقاطع الشرقي، أو الشمالي أو الجنوبي، ثم بعد ذلك كله نتساءل، لماذا تردى الاقتصاد، أو لماذا ندخل في أزمة بعد أزمة بعد أزمة، وكأن الاقتصاد شيء آخر غير مداخيل السياحة والاستثمار والإنتاج الفني والتجارة مع الغرباء.

هل يرتدع المعطلون ويتعظون؟ أبداً. السمت التالي المشترك بين الدول المأزومة أنها - وهي الأغراض السامية نفسها - لا يمكن أن تعترف بأنها المسؤولة عن مشاكلها، لا بد من أن جهةً خارجية ما تحاربها، لا بد من أن هناك مؤامرة كونية عليها، لا بد من أن دورها الحضاري ظيم مثار حسد وضغينة من القريب قبل البعيد.

هذا التسامي يخلق أيضاً شعوراً بالاستحقاق. على الآخرين أن يتكاتفوا لدعمنا، بلا شروط. هذا أقل واجب. حديث سمعته في اليونان أيام أزمته، وكان موجهاً إلى «الاتحاد الأوروبي»، وسمعته في العراق في بداية الألفية، ولا أزال أسمعه في أكثر من مكان إلى اليوم. المشكلة أن هذه ثقافة. وكونها ثقافة يعني أن المستزيدين منها - المثقفين - متشربون بها أكثر من أي مواطن عادي في المجتمع. هم أيضا فئاتٌ وجِهاتُ تعطيل، وهم في الوقت نفسه جهات شكوى من نتائج التعطيل.

في هذه المجتمعات تنتشر ثقافة المكايدة؛ كونها أداة التعطيل الأساسية إن لم تستجب فئة لفئة. ولو رسمنا لمسار الدولة خطاً بيانياً لكان بشكل الزجزاج. فئة تسحبنا يساراً، وأخرى تعيدنا يميناً، والمحصّلة «صفر»، وربما تراجعٌ على مقياس المسافة المقطوعة في الزمن، ناهيك عن فقدان ثقة دول ومؤسسات ومستثمرين.

قبل أن نلوم آخرين على حالنا، ينبغي أن نلوم أنفسنا، الفقر والرخاء ثقافة، ثقافة قبل أن يكون موارد طبيعية. وثقافة حاضرة يمكننا أن نصنعها بأيدينا قبل أن تكون جغرافيا، وقبل أن تكون تاريخاً.