أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

هواجس أوكرانية

استمع إلى المقالة

هل تكون أوكرانيا نقطة الانفجار الكوني؟ فاجأتني الحرب الأوكرانية المستعرة، المتصاعدة، منذ فبراير (شباط) 2022 وآلمتني إلى أبعد حد. على الرغم من معاناتنا المأسوية للانهيار اللبناني، فقد بدت فجأة حقول الدمار وبحور الآلام الأوكرانية أكثر مأسوية مما نعيشه بما لا يقاس. أدركت مرة أخرى أنه ليس من فجيعة أكبر من الحرب، هذا الشر المطلق. وتذكرت بعض ما كنت أشعر به خلال إقامتي الطويلة في باريس، وخلال تجوالي المديد في أنحاء أوروبا الغربية. طالما قلت لنفسي في حينه: «لا سبيل لمعرفة معمّقة للطبيعة البشرية، الفردية والجماعية، عبر العيش في مجتمع واحد. وإن هجرتي تتيح لي المقارنة الفريدة الدائمة بين مجتمعي والمجتمعات الأخرى، وبين إنساني والإنسان الآخر». وكان ثمة سؤال أطرحه على ذاتي باستمرار: «ما الذي يميّزني عن ذلك الجيل الأوروبي، المولود في الخمسينات من القرن العشرين، الذي ألتقيه وأتفاعل معه، من مكتبة السوربون وأزقة الحي اللاتيني، إلى متاحف روما وفلورنسا، إلى مقاهي بروج القديمة؟». كان ثمة تمايز في أمور كثيرة. في النظرة إلى الحياة والموت والزمن والجسد والواجب والسعادة والجماعة والماورائي، والكثير سواها. لكن كانت هناك نقطة أساسية أتوقف عندها؛ ليس في الذاكرة المعاشة لهذا الجيل الأوروبي الغربي أي حروب. ربما هو الجيل الأول في التاريخ الخالي وعيه من هواجس الحرب. أما أنا فمثقل وعيي بأطياف الحروب والفتن وهواجسها، على مدى الذاكرة، من مكان الطفولة والصبا الأول، إلى المكان اللبناني برمته... وها هي الحرب الأوكرانية تلج على حين غرّة وعي ذلك الجيل الأوروبي الغربي، وما تلاه من أجيال، وتقتحم فجأة الذات الجماعية الأوروبية بمخاطر «الحرب العظمى» المرعبة وأشباحها النووية.

في فبراير 2020، كانت تبدو القارة الأوروبية أرض استقرار وازدهار وتطوّر وحرية نادرة وراسخة، في منأى تام عن الصراعات الدموية التي تهز، هنا وهناك، أنحاء العالم. لقد توحّدت شعوب القارة القديمة ضمن «المجموعة الأوروبية»، وتآخت فيها أمم طالما استحكم العداء بينها على مرّ التاريخ، الفرنسيون والإنكليز والألمان والطليان والإسبان وسواهم، وتفكك فيها الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، فسقط جدار برلين وتوحدت الألمانيتان، واندثر حلف فرصوفيا، وبات حلف شمال الأطلسي لا يجدي ولا يخيف. والشعوب الأوروبية، التي عانت الأمرين من أهوال الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ومن صعود النازية والفاشية والشيوعية وانهيارها، ومن مخاطر الحرب الباردة، قد انصرفت من زمان إلى حياتها اليومية الآمنة، المستقرة، العالية المستوى، وتلاشت فيها تماماً الروح القتالية لصالح النزعة السلمية العميقة، وضعفت فيها كثيراً الروح القومية والوطنية لصالح التوق إلى السعادة الفردية، لا غير... وعلى الرغم من تحذيرات المخابرات الغربية المتكررة حول الحشود العسكرية الروسية الضخمة على الحدود، وتأكيد الروس يوماً بعد آخر أنها مجرد مناورات لا اكثر، بدا هجوم فلاديمير بوتين الكاسح على أوكرانيا، للمواطن الأوروبي، كفعل لا يُعقل ولا يُصدّق، آتٍ من خارج الزمان، ومن ما وراء التاريخ. كنيزك ضخم سقط على أوروبا من الفضاء الخارجي!

فوجئت أنا أيضاً، وإلى حد بعيد. لكنها لم تكن المفاجأة الأولى. كانت المفاجأة الكبرى الثانية لي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، ذلك الانهيار المفاجئ، المذهل، المتسارع، المهول، الذي عايشته في قلب أوروبا وكتبت عنه كثيراً. كيف يمكن أن يتهاوى من الداخل، على حين غرّة، ومن دون حرب أو ثورة، ذلك النظام الحديدي ومنظومته، الأشد صلابة ومتانة وقدرة على الاستمرار بين أنظمة العالم المعاصر منذ ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917؟ والآن، كيف تنفجر هذه الحرب الأوكرانية العبثية وسط القارة الأوروبية، قبلة أنظار الحالمين بالأمن والسلم والحياة الكريمة والازدهار في العالم، الذين يرمون بأنفسهم في عباب البحار أملاً في الوصول إليها؟ لا شيء يبرر هذه الحرب. لا تبررها مقولة إسقاط «النظام الأوكراني النازي» الغريبة العجيبة، ولا التخوف من انتماء كييف إلى حلف شمال الأطلسي، التي لم تكن لتحصل أصلاً، ولأن هذا الحلف بات من زمان أسداً عجوزاً لا يخيف. حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استهزأ بهزاله قبل مفاجأة الهجوم الروسي. وبينما كان المرء يتوقع استنكاراً لهذا الهجوم، إذ بدول العالم وشعوبها أيضاً تنقسم بشدة حوله، بين شاجب، ومؤيد، ومتفهم، ومتردد، وبين بين. وها هو الشعب الروسي نفسه، ولو في ظل الإعلام الموجه، يقف بشدة مع قرار بوتين. وها هي النظريات المؤيدة تتفاعل في أنحاء العالم؛ الأميركيون ورطوا بوتين في هذه الحرب، إنها حرب عالمية ثالثة مقنعة يشنّها الغرب على روسيا، الحرب ستنتهي بتفكك أوكرانيا ومحوها من الخريطة، والكثير سواها. وفي البيئة اللبنانية مثلاً، يكنّ مئات الألوف من أنصار محور الممانعة وحلفائه عداءً سافراً لأوكرانيا. وقد طلع أحد رموز هذا المحور أخيراً ليتوقع قرب إلقاء القنبلة الذرية الروسية على أوكرانيا، «لأنه لم يعد من حل آخر»...

يكمن في عمق هذه المقولات تساؤل مضمر واحد؛ كيف لم تستطع القوات الروسية السيطرة على أوكرانيا خلال أيام عدة؟ وكيف لم تهزمها بالضربة القاضية؟ أمر غريب فعلاً. فأنا أعتقد، من خلال معايشتي النزعة السلمية العميقة لدى شعوب أوروبا الغربية أن الهجوم الروسي المفاجئ الذي وقع على أوكرانيا، لو وقع على أي بلد أوروبي غربي، لما استطاع صده. لكنه الشعب الأوكراني، ولكنها شعوب أوروبا الشرقية، التي عانت ما عانته على مر الزمان من الهيمنة الروسية المطبقة عليها، والتي تستميت لعدم العودة إليها. ولولا هذه الاستماتة لما استطاعت كل أسلحة أميركا والغرب ومساعداتهما المالية مواجهة جيش بوتين في أوكرانيا.

يبقى الهاجس الأكبر؛ إلى أين يمكن أن تأخذ الحرب الأوكرانية أوروبا والعالم؟ هذا العالم الذي يضم من الأسلحة النووية ما يمكنه تدمير الكرة الأرضية عدة مرات. وهل الحرب، بعد كل هذه الإنجازات العلمية والحياتية الباهرة التي نعيشها، هي قدر البشرية الأبدي الذي لا مفرّ منه ولا خلاص؟