د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

كيف تختلف الشعوب في حواراتها؟

استمع إلى المقالة

سأل مذيع بريطاني مسؤولاً صينياً عبر أثير التلفاز؛ هل أنتم منافسون للمملكة المتحدة، أم حلفاء، أم مصدر خطر؟... كيف تقيم علاقتكم مع بريطانيا؟ هنا جاء وقع الصدمة، فقال الصيني ببلاغة: «أولاً من وجهة نظر الصين، فإن بريطانيا ليست خصماً ولا منافساً. بريطانيا مجرد بلد مهم نحاول التعايش معه بسلام، وصداقة، ومصالح مشتركة. أما البريطانيون فهم أحرار في وجهة نظرهم تجاهنا، لكنني أرى أنه من الخطأ اعتبارنا خصوماً أو أعداء. فبماذا تنافسنا بريطانيا؟!» ثم يمضي قائلاً إن «الصين هي أكبر مصنع للسيارات التقليدية والإلكترونية في الكرة الأرضية، فهل تنافسنا؟ بالطبع لا، وسنقود العالم بهذه الصناعة، وفي البحث والتطوير R&D، وفي أشباه الموصلات semiconducter، وغيرها، في زمن قياسي، وستقود الصين العالم في الذكاء الاصطناعي، فهل تنافسنا بريطانيا؟ بالطبع لا. وعليه، أعتقد أن على الحكومة البريطانية ألا تبالغ بتأثيرها على المشهد العالمي، وتصوير الصين بأنها منافس لها، فالصين هي حقيقة مطلقة، وهي توجه كاسح megatrend ينبغي على بريطانيا التعايش معه بسلام، بدلاً من التحريض على الحروب (بشتى أنواعها)».

هذا الصيني الذي بدأ بحذر، ثم أفحم المذيع البريطاني، أصاب الأخير بذهول. وفي طيات تلك المواجهة، انبثقت ثقافتان متقاربتان، الأولى هي كياسة الإنجليزي و«ذرابته» كما نقول باللهجة الكويتية، بسؤال يحمل وخز الإبرة. والثانية حذر الصيني، الذي حوّل النقاش تدريجياً إلى مواجهة دامغة في ردّه على سؤال ملغوم. العالمة إيرن ماير تفرغت لجمع تباين الشعوب عند اختلافاتها، لتضعها في كتابها الجميل «خريطة الثقافة»، فوجدت في الدراسات أن الأمم عندما تختلف تميل إلى الوقوف على صعيدين، إما «تجنب المواجهة» non-confrontation قدر الإمكان أو استمراء «المواجهة» confrontational. فالصينيون أكثر تجنباً للمواجهة مع خصومهم، وربما هذا ما يفسر انكفاءهم على أنفسهم لعقود طويلة وانشغالهم بيومياتهم وثقافتهم وصناعاتهم. ولم تكن بلادهم ترد الصاع صاعين عندما كانت اليابان في أوج عدوانيتها العسكرية تجاه جيرانها. ويقع البريطانيون في معسكر «تجنب المواجهات» نفسه، لكنه أقرب إلى حدود معسكر المواجهة.

وبنظرة شاملة، صنفت العالمة الأميركية البلدان التي تميل شعوبها نحو المواجهة عند الاختلافات بحسب الشدة على النحو التالي؛ الكيان الإسرائيلي، والفرنسيون، والألمان، والروس، والهولنديون، والإسبان، والإيطاليون، والأستراليون، ثم الأميركيون. أي أن الأميركيين أقل حدة في المواجهة عند الاختلاف، لكنهم لا يخفون مشاعرهم في تلك اللحظات، ويتبعهم الفرنسيون واليونان والإسبان والإيطاليون، وأشدهم من يعيشون في الكيان الإسرائيلي!

والأبحاث تشير إلى أن هناك من إذا اختلفوا فضحتهم مشاعرهم emotional expressive كالشعب البرازيلي والمكسيكي ثم السعودي والفلبيني والبيروفي، بحسب الترتيب. وعلى النقيض، تبين أن البريطانيين الأكثر تحفظاً في إبداء المشاعر، ومن عاش بينهم أو احتك بهم يدرك حقيقة ذلك. ثم يأتي بعدهم السويديون والصينيون والكوريون ثم اليابانيون.

اختلافات الشعوب صارت تدرّس في كتب الإدارة والقيادة وعلم الاجتماع، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة. وبعد تشابك المصالح وتعارض مقاصد السلوك نفسه. فهناك من يتجاهلك عندما لا يملك شجاعة الرفض أو الاختلاف، وهناك من يتصدى لك بقوة بحجة المصلحة العامة أو وضع النقاط على الحروف. هناك من يحمل معول هدم عند الاختلاف، وهناك من يتفادى إبداء مشاعر الاختلاف، كما يفعل الإندونيسيون. ولذا يقول المثل في جزر البهاما: «للانخراط في الصراع، لا يحتاج المرء إلى إحضار سكين حادة، بل إبرة يخيط» بها جوانب الاختلاف.