تعيش المملكة مخاضاً نهضوياً متسارعاً في ظل برنامج التحول الوطني ورؤية 2030 بشكل يُذكّر المراقبين بجهود الملك المؤسس الذي استعان بمجموعة من الكفاءات المثقفة من داخل وخارج المملكة للاستفادة منهم في إدارة وتحديث الجهاز البيروقراطي للمملكة وتسويق صورتها في الخارج من الناحيتين الدبلوماسية والإعلامية.
منذ إطلاق رؤية 2030 والمملكة تواجه كثيراً من التحديات على المستويين الاستراتيجي والإعلامي، التي تستوجب وجود مراكز أبحاث Think Tank غير حكومية تقدم إنتاجاً فكرياً رصيناً يرفد صانع القرار برؤى مختلفة عن تلك التي تصدر من موقع المسؤول الرسمي. ورغم وجود بعض التجارب لمراكز دراسات سعودية، فإنها تظل - على نحو الإجمال - دون مستوى تطلعات الرؤية التي يتصاعد نتاجها بشكل يسبق توقعات المواطنين والمراقبين.
عند التطرق لمراكز الفكر بوصفها قطاعاً خدمياً يساهم في تنمية البلاد ورفدها برؤى استراتيجية واستشارات تخدم صانع القرار في الجهات المعنية (بالشؤون السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية)، فإننا نتطلع لمؤسسات تختلف عن الهيئات الاستشارية الحكومية بكونها تمارس عملها وتنشر إنتاجها بصفة ذات طابع فكري، وليس رسمياً. فهذه المؤسسات لا تمثل وجهة النظر الرسمية للدولة التي تتخذها مقراً لها.
في 17 فبراير (شباط) 2023، نشرتُ مقالاً في صحيفة «عكاظ» بعنوان «مراكز الفكر وتحديات الوطن» تناولتُ فيه مراكز الأبحاث الموجودة في المملكة ومدى مواكبتها لرؤية 2030 وجدوى إنتاجها في ظل التحديات التي تواجه المنطقة بشكل عام، والمملكة بشكل خاص. لن أعيد ذكر الإحصائيات التي تعكس تواضع نشاط مراكز الفكر التي لم ترتقِ بعد لمستوى أن تكون قطاعاً قائماً بحد ذاته، لكني أود التذكير بأهمية وجود هذا القطاع بشكل مُنتِجٍ، وليس بالشكل الحالي الذي يغلب عليه نشاط العلاقات العامة.
إن أي مركز يجب أن يُحاسب بناء على 3 أنواع من الأنشطة...
1- نشر أبحاث جادة تعكس المستوى العلمي الرصين للمركز وباحثيه.
2- إقامة مؤتمرات وورش عمل تركز على الموضوعات التي تهم البلاد، ويكون أساس المشاركة فيها جودة المادة المقدمة، وليس سمعة الأسماء أو العلاقات الشخصية.
3- تدريب كفاءات وطنية شابة من خريجي الجامعات المحلية والمبتعثين في الخارج، وقياس جودة التدريب من خلال انعكاسه على أداء أولئك الشباب والشابات.
بلا شك هذه المراكز تحتاج إلى الدعم المالي الذي يكفي «احتياجاتها التشغيلية»، بما يضمن قدرة المركز على القيام بالأنشطة الثلاثة المذكورة أعلاه. بعد أن يثبت المركز جدارته في هذه الأنشطة، يكون مستحقاً لأن يُقصد من قبل المؤسسات الحكومية والأهلية للقيام بالمشاريع الاستشارية التي تحتاجها تلك المؤسسات.
كثير من المراكز البحثية اليوم تشتكي من قلة الموارد المالية وتعزو سبب بطء تطورها لقلة تلك الموارد! وبغضّ النظر عن مدى دقة مثل هذه الشكوى، فإن السؤال الذي يجب طرحه هنا؛ هل إنتاجكم يتناسب مع مواردكم (التي تصفونها بالقليلة)؟
بنظرة سريعة على إنتاج تلك المراكز، سنجد أن كثيراً من منشوراتها - ولن أقول الكل حتى لا أقع في فخ التعميم - لا يتبع قواعد البحث العلمي. فالغالبية منها يركّز على الجانب الوصفي أكثر من الجانب التحليلي، إضافة إلى الفجوة الواسعة بين الأطر النظرية والمنهجيات البحثية. كثير من تلك المنشورات تضع أرقاماً وجداولَ لدعم فرضيات تطرح في المقدمة كمسلّمات دون اختبار حقيقي لتلك الفرضيات! ولذلك، فلا عجب أن تكون مخرجات البحث غير قابلة للتحول إلى توصيات عملية بناء على ملخصات تنفيذية (Executive Summary) تخدم صانع القرار في المؤسسات الحكومية والأهلية.
لعل أبرز أسباب تواضع مخرجات تلك المراكز يعود لتواضع الثقافة الأكاديمية حول مواضيع الشأن العام. فنموذج الاستبانة المباشرة التي تُوزعُ على عينة بسيطة من المجتمع من أجل أن تعزز إطاراً نظرياً جامداً، لن يُخرج لنا إلا طالباً ذا صفة تعزيزية للكتاب الذي قرأه، دونما محاولة لتحدي الأُطر المعرفية التي درسها في قاعة الدرس. وهذا يستدعي إشكالية ضعف مستوى التفكير النقدي في العمل الأكاديمي، الذي يعود إلى آليات الدرس في الجامعات حيثُ يُفترض من الأساتذة أن يقوموا بتحفيز طلبتهم على عمل مراجعات نقدية للمواد التي يقرؤونها كجزء من المقرر الدراسي. هذا مطلب أساسي لتطور المناخ الفكري العام الذي يتوافق مع رؤية 2030، التي من ضمن أنشطتها إدخال مادة «التفكير الناقد» ضمن مناهج التعليم. التوجه الرسمي يسعى لتنمية مهارات التحليل والتساؤل بدلاً من التلقين والحشو من أجل الوصول إلى مخرجات تعليم مفكرة وحيّة قادرة على إثراء الوطن.
ما سبق يستدعي التطرق إلى أهمية التدريب العملي في مراكز الأبحاث، الذي يجب أن يقوم به باحثون متمرسون في البحث العلمي، تماماً كما تتعامل الشركات مع خريج الهندسة. فكما أن الخريج الجديد يحتاج لوقت يبني فيه خبرته العملية ليتحول من حامل شهادة هندسة إلى مهندس، فإن حامل شهادة العلوم السياسية والاجتماعية يحتاج إلى وقت ليتحول إلى باحث أو ممارس.
ختاماً، فإنه بغضّ النظر عن مستوى الدخل المادي لأي مركز، فإن المركز يُحاسب بناء على جودة نتاجه. وعليه، فإن الإنتاج الجيد إذا كان قليلاً، أفضل من كثرة الإنتاج غير الجيد. ربما تحتاج مراكزنا إلى أن تركز جهودها على نطاق محدد تتميز فيه وتعطي معنى للتنوع وتشجع على إنشاء مراكز جديدة ذات صبغة علمية رصينة.
بالنسبة للجهات التي تتعامل مع المراكز، فإن أفضل طريقة، يضمنون فيه جودة إنتاج الأبحاث والتقارير التي كلفتهم جزءاً من ميزانياتهم، أن يحيلوها للمراجعة عند طرف ثالث، متمرس في العمل النقدي المدقق، يقوم بتحكيم المنتج البحثي وكتابة تقرير تفصيلي يحوي ملاحظات علمية وفنية حول ذلك البحث. إن هذا النوع من المراجعة سيسهم في رفع مستوى جودة البحث بوصفه منتجاً (سلعة) يقدمها المركز للمستهلك (المؤسسة أو الجهة التي طلبته).