علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

سارق الترجمة

استمع إلى المقالة

أشرت في المقال السابق إلى ترجمة أنور الجندي لمنصور فهمي في كتابه (أعلام وأصحاب أقلام)، وأشير هنا إلى أن ترجمته له تضمنت معلومة تتعلق بتاريخه الأسري، ومعلومة أخرى أورد فيها اسمه الكامل. هاتان المعلومتان لم أرَ أن كاتباً إسلامياً أو كاتباً علمانياً نقلهما عنه.

يقول أنور الجندي: «فقد ولد في 17 يناير (كانون الثاني) 1886 في قرية شرنفاش (دقهلية)؛ حيث نزح أجداده من بلاد المغرب، وحين آثر الشيخ البقلي مديرية المنوفية وهو عائد من الحج أقام بها؛ حيث توجد زاوية البقلي. فهو منصور علي فهمي البقلي».

إبراهيم عوض الذي كان قد حصل من رابح لطفي جمعة على الرسائل التي بعثها محمد سيد كيلاني إلى أبيه، قال في كتابه (كاتب من جيل العمالقة...): «بل إنه أرسل بعض فقرات من ذلك الكتاب راجياً منه أن يترجمها له إلى العربية، وإن كان قد عاد في خطاب آخر فذكر له أن أحد أساتذته بكلية الآداب قد ترجم له مقدمة ذلك الكتاب والفصل الأول منه».

أنور الجندي في كتابه المرجعي (المعارك الأدبية في مصر منذ 1914/ 1939) نقل ثلاث فقرات مترجمة من رسالة منصور فهمي للدكتوراه. هذه الثلاث فقرات المترجمة من الفرنسية إلى العربية سرقها أنور الجندي من كتاب محمد سيد الكيلاني (فصول ممتعة) التي قام بترجمتها له أحد أساتذته بكلية الآداب.

الشاهد على هذه السرقة، أن ترجمة الفقرات الثلاث إلى العربية متطابقة. وفي ترجمة النص الأجنبي لا يمكن أن تكون ترجماته إلى لغة أخرى متطابقة تطابقاً تاماً. كما أن أنور الجندي ارتكب هفوة كشفت سرقته. هذه الهفوة سأذكرها من خلال هذا الشرح:

قدم أنور الجندي الفقرات الثلاث بهذه العبارة: «وهذه هي النصوص التي هاجمها النقاد»!

وقبل أن يورد الفقرة الأولى التي تبدأ بهذه الجملة: «محمد يشرِّع لكل الناس ويستثني نفسه»، كتب في البداية «ص15». وهذه إحالة إلى رقم صفحة الكتاب الذي طبعت فيه رسالة منصور فهمي للدكتوراه.

حين حديثه عن رد محمد لطفي جمعة على هذا الكتاب، وحين نقله بعض ما جاء في رده، نقل -من بين ما نقل- كلامه الذي قال فيه: «لن نجادله دينياً؛ لأننا لو طرقنا معه باب الدين فقد كفر بقوله: إن محمداً شرَّع للناس واستثنى نفسه. ص13 من رسالته».

الكتاب إلى عام 1990، طبع باللغة الفرنسية، طبعة واحدة، هي طبعة عام 1913، فكيف تأتي جملة فيه مرة في صفحة 15، ومرة في صفحة 13؟! وكيف تختلف صياغتها في الفقرة الأولى عن صياغة محمد لطفي جمعة لها التي نقلها حرفياً منه؟

تفسير هذا الاضطراب في الإحالة الذي وقع أنور الجندي فيه، أنه قد سرق ترجمة الفقرة الأولى من كتاب (فصول ممتعة) الذي أحال فيه صاحب الترجمة أستاذ كيلاني بكلية الآداب إلى صفحة 15 من الكتاب.

الفقرتان الثانية والثالثة، اللتان سرق أنور الجندي ترجمتهما -أيضاً-، أحال صاحبهما المجهول لنا اسمه، إلى صفحة 16 وصفحة 18 من الكتاب.

من أرقام هذه الصفحات يتضح لنا أن الفقرات الثلاث اختارها كيلاني من الفصل الأول من الكتاب الذي طلب من أستاذه بكلية الآداب أن يترجمه له، ففعل له ذلك.

تقدم أن هذا الأستاذ ترجم لكيلاني مقدمة الكتاب. كيلاني اختار من هذه الترجمة لمقدمة الكتاب، فقرة، أحال أستاذه فيها إلى صفحة 3 من مقدمة الكتاب. هذه الفقرة نصها ما يلي: «وهذه الدراسة بالنسبة إلينا فرصة للإشارة إلى المؤثرات السعيدة التي أثرت على ثقافتنا العلمية. فلقد وُلدت مسلماً، وقضيت فترة شبابي في وسط إسلامي. ثم قدمت إلى باريس، واكتسبت تحت إشراف أستاذنا العلامة الشهير ليفي بريل معرفة المناهج الضرورية للأبحاث الدقيقة. وهدفنا بهذا المبحث إلى غرض واحد، هو الوصول إلى الحقيقة».

أنور الجندي أعفى هذه الفقرة من السرقة. وقد أعفاها من السرقة؛ لأنه استغنى عنها بعرض محمد لطفي جمعة لها بأسلوبه أولاً، ثم بترجمته لها نصاً ثانياً.

ومن المفيد أن يرجع القارئ إلى ترجمة محمد لطفي جمعة لها نصاً، والتي أوردتها في المقال ما قبل الماضي، وهو مقال (معلومة مغلوطة عن ليفي- بريل أشاعها الإسلاميون)، ويقارن بينها وبين ترجمة أستاذ كيلاني لها، ليلحظ الفروق بينهما. وأنا متأكد أنه سيشهد مثلي لترجمة الأخير بأنها هي الأوفى.

كتاب أنور الجندي في رواية صدر في طبعته الأولى عام 1959، وفي رواية أخرى صدر عام 1962، وإذا ما أخذنا حتى بالرواية الأولى فثمة متسع من الوقت أمام أنور ليسرق من كتاب (فصول ممتعة)؛ لأن هذا الكتاب صدر في الشهر الأول من عام 1959.

بقي ذكر أمر أخير في قضية الكشف عن سرقة أنور الجندي في كتابه المرجعي من كتاب (فصول ممتعة).

العبارة التي قدم فيها أنور الجندي الفقرات الثلاث التي سرق ترجمتها، فيها تكثير لما لا كثرة فيه.

وهذا التكثير لما لا كثرة فيه، كان تكثيراً للنقاد وتكثيراً للنصوص.

إننا لا نعرف سوى ناقد واحد هاجم رسالة منصور فهمي للدكتوراه. هو محمد لطفي جمعة. ولا نعرف نصاً اقتبس منها وهوجم سوى جملة واحدة اقتبسها محمد لطفي جمعة، في رده من مقدمة الرسالة. وهذه الجملة كانت مطلع الفقرة الأولى.

هذا نعرفه من كتاب أنور الجندي المرجعي (المعارك الأدبية).

ونعرف أكثر من كتاب كيلاني (فصول ممتعة)، أن الهجوم على رسالة منصور فهمي، جاء في ثلاث صولات عليها، حسب هذا الترتيب الزمني:

«وقد نشرت صحيفة (المؤيد)، كلمة بتاريخ 20 يناير سنة 1914 تحت عنوان (هل هذا صحيح؟) تساءلت فيها عن حقيقة ما جاء في رسالة منصور، وطلبت من رجال الدين أن يعملوا على إيقاف الإلحاد حتى لا تفسد العقول».

«وكتب المرحوم محمد لطفي جمعة مقالاً طويلاً، نشرته (المؤيد) في 28 يناير سنة 1914».

«وقد نشرت (المؤيد) مقالاً آخراً بعنوان (حملة مدبرة ضد محمد، صلى الله عليه وسلم) بتاريخ أول مارس (آذار) سنة 1914، فيه تفنيد لمزاعم منصور فهمي».

هذا المقال نشر من دون اسم كاتب، فلو كان منشوراً باسم كاتب لكان كيلاني ذكر اسمه. وعليه فهذا المقال الذي نشرته صحيفة (المؤيد) مع إغفال ذكر اسم كاتبه يمثل وجهة نظرها فيما جاء في رسالة منصور فهمي.

فالنقاد اثنان:

الأول، صحيفة (المؤيد) التي بدأت الهجوم على الرسالة بكلمتها المنشورة بتاريخ 20 يناير سنة 1914، وختمته بمقال كتبته بتاريخ أول مارس سنة 1914. ولم تقتبس صحيفة (المؤيد) في كلمتها وفي مقالها أي نص من الرسالة في هجومها الأول والأخير عليها.

الثاني، محمد لطفي جمعة. وهو الناقد الذي نعرف اسمه.

اختلق أنور الجندي هذا التكثير للتغطية على سرقته. وينبغي علينا ألا نشتد في تجريم أنور الجندي على هذه السرقة. ليس لأنه متوفى؛ بل لأن سرقته هذه تخفضه إلى مرتبة دنيا. فيجب علينا أن نتساهل معه، كما يتساهل المصريون مع من هو في مرتبة «حرامي الغسيل»، تصغيراً لقدره، واحتقاراً لشأنه. وللحديث بقية.