كان البارز في الحرب الأوكرانية مؤخراً التحول في عناوينها؛ من حرب لمنع الناتو من تطويق روسيا، إلى حرب تحرر ومكافحة الاستعمار. هذا التحول ظهر على لسان وزير الخارجية الروسي لافروف خلال جولته في الربيع الماضي على دول أفريقية طالباً دعمها من خلال تذكيرها بتاريخ الاتحاد السوفياتي الروسي المناصر لقضاياها، ومشاركته حروب استقلالهم ضد المستعمرين الأوروبيين. هذه الدبلوماسية وُصفت بأنها «دبلوماسية الذاكرة» التي تسترجع فيها موسكو دورها، وتُذكِّر من وهنت ذاكرته أنها صديقة الشعوب، وأن على الشعوب أن ترد الجميل وتناصرها في المعركة الدائرة في أوكرانيا. هذه الدبلوماسية شهدت بُعداً أكبر عندما صرح الرئيس بوتين أنه مستعد لمساعدة الانقلابيين في النيجر «للتخلص من الاستعمار القديم والاستعمار الحديث» قاصداً بذلك حلف الناتو بزعامة أميركا. كذلك، أكدت السفارة الروسية في جنوب أفريقيا على موقعها أن «روسيا لم تشارك في تاريخها بتجارة الرق، بل مدّت يد المساعدة بكل طريقة ممكنة لشعوب القارة الأفريقية للحصول على الحرية والسيادة». وفي مؤتمر الدفاع والأمن الذي نظمته وزارة الدفاع الروسية في 15 أغسطس (آب) الحالي، في موسكو، أكد وزير الدفاع الروسي شويغو أن الانتصار في المعركة الأوكرانية «سيشكل عاملاً مهماً في مواجهة الاستعمار الجديد».
هذا التغير في الخطاب الروسي يمكن تفسير دوافعه بأمرين؛ أولاً، شعور موسكو أنها بدأت تخسر تعاطف دول العالم الثالث، وثانياً، تنشيط أوكرانيا دبلوماسيتها وتواصلها مع هذه الدول لشرح وجهة نظرها. لا شك أن موسكو شعرت بالامتنان، عند بدء الحرب، للدول النامية لتعاطفها مع مخاوفها الأمنية من حلف الناتو واحتمال قبوله عضوية أوكرانيا، ولتأييد 17 دولة أفريقية لروسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن هذا التعاطف لم يدم طويلاً بعدما فشلت موسكو في حسم الحرب بسرعة، وانكشاف ترهل سلاحها العسكري، وما تبع ذلك من ارتفاع جنوني في أسعار الطاقة، وكذلك أسعار الحبوب بعد منع روسيا تصدير شحناته من المرافئ الأوكرانية. هذه التبعات كان المتضرر الأول منها تلك الدول المتعاطفة مع موسكو، التي كان من المفترض أن تأخذها القيادة الروسية بالحسبان. وصاحب ذلك إظهار أوكرانيا الإرادة على القتال، والصبر، واعتماد دبلوماسية ناشطة لتذكير هذه الدول المتعاطفة مع موسكو أنها أيضاً دولة مستقلة، تناضل من أجل التحرر، ورفض الوصاية الروسية. ولعل إصرار القيادة الروسية على نكران وجود الدولة الأوكرانية تاريخياً، وعلى حتمية إعادتها إلى الحضن الروسي، مثل النقطة الأوهن في التبرير الروسي، فالعودة للتاريخ يفتح صندوق الشرور، وقبوله يعني نزاعات حدودية لا تنتهي.
وعلى عكس موسكو وتمسكها بحقها الإحيائي التاريخي، سارعت الحكومة الأوكرانية إلى عرض مبادرة سلام من 10 نقاط لحل الخلاف مع روسيا، ومن أهم بنودها مراعاة أمرين؛ الأمن الغذائي للدول النامية والفقيرة من خلال ضمان تصدير القمح الأوكراني، وكذلك حماية البيئة من خطر الإشعاع النووي؛ وهذان بندان مهمان جداً، والعالم يتعاطف معهما، ولا سيما أنهما يترافقان مع احترام القانون الدولي وسيادة الدول. هذه المبادرة كانت حاضرة في مؤتمرين؛ الأول في كوبنهاغن، والثاني في المملكة العربية السعودية. أهمية المؤتمر الثاني في المملكة تكمن بحضور 40 دولة، منها الصين التي لم تشارك في المؤتمر الأول، وكذلك حضور الرئيس الأوكراني زيلينسكي، ومعه مبادرته للسلام، ولأن المملكة هي الأخرى تمثل قيمة هامة للدول النامية وتطلعاتها. ورغم أن المملكة حاولت أن تبقى على الحياد النسبي لضمان وساطاتها فإن رفض روسيا حضور المؤتمر أضعف موقفها كثيراً، وسمح لأوكرانيا أن تبلغ رسالتها الدبلوماسية بلا عراقيل، وحسب دبلوماسي أوكراني لقناة «العربية»، فإن مبادرة أوكرانيا نالت رضا وتأييد عدة دول مشاركة في المؤتمر.
ثمة أمران فشلت بهما روسيا، هما دبلوماسية التحرر ومحاربة الاستعمار، وتبريرها اجتياح أوكرانيا بالحق التاريخي. فالدبلوماسية القائمة على إرث الذاكرة السوفياتية، واستصحاب كفاح التحرر، وإحيائه مجدداً ليكون كفاحاً ضد هيمنة الولايات المتحدة على العالم، يفتقد أهم أمرين، هما الوهج والآيديولوجية. فروسيا الحالية لم تعد تحظى بالوهج الذي كان لها قبل العملية الخاصة (اجتياح أوكرانيا)، ولا تملك الآيديولوجية لمناهضة الغرب الرأسمالي. هذا بالذات يفسر تناقص أعداد القادة الوافدين لمقابلة بوتين، ففي عام 2019 حضر القمة الأفريقية الروسية 43 زعيماً، بينما لم يحضر القمة هذا العام سوى 17 زعيماً، وبعضهم طالبه علناً بوقف الحرب.
أما الحق التاريخي كمبرر للاجتياح فليس سوى قراءة ذاتية للتاريخ، ولا تحمل طابع الموضوعية. فما تراه روسيا ليس بالضرورة يراه كذلك العالم. فقراءة التاريخ لها طابعان؛ إيجابي وسلبي. فالقراءة الإيجابية هي باستلهام قارئه العبر، كما قرأ الرئيس ديغول تاريخ بلاده مع الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية. فاليمين الفرنسي عوَّل عليه اليمين أن يحارب لبقاء الجزائر فرنسية، لكن ديغول رأى أن عظمة فرنسا، كما يقول الكاتب غيدون رشمان، ليس أن تبقى إمبراطورية، بل يمكنها أن تكون عظيمة من دونها، وكان قراره الانسحاب من الجزائر. أما القراءة السلبية فهي أن تستبطن الماضي كحل أوحد، وبوتين يؤمن أن روسيا لا يمكنها إلا أن تكون إمبراطورية، ولهذا اعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي «كارثة القرن». وهذا يفسر إصراره على الحرب، لاعتقاده أن روسيا لن تكون عظيمة إلا إذا احتفظت بأوكرانيا وجورجيا والشيشان وغيرها. هذه القناعة قاتلة، لأنها تسحب كل المبادرات المعقولة، أو التنازلات المحتملة من الأطراف المتحاربة، وتفتح الساحة على كل الاحتمالات. وبما أن روسيا دولة تملك سلاحاً نووياً فتاكاً، فالإصرار على هزيمتها يحمل مخاطر جمة. ولعل الحل الأمثل أن تصر الدول النامية، والدول الغربية، والصين، على حل معقول، يضمن كيان أوكرانيا، ثم عظمة روسيا الحقيقية أو المتخيلة.