خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

فروق بين الكانتين والبقالة تشرح الاقتصاد

استمع إلى المقالة

تبدو البقالة والكانتين نشاطين اقتصاديين متماثلين. لكن الواقع أنَّ الفروق البسيطة بينهما تؤول إلى فروق كبرى حين ننظر بعين الحساب الاقتصادي.

البقالة يملكها مواطنٌ عاديٌّ، يتعامل مع نطاق واسع من الزبائن. وهو كيانٌ عرضةٌ للنجاح والفشل اعتماداً على جودة البضائع وتنوعها ووفرتها، وعلى أسلوب تعامله مع الزبائن، والخدمات الإضافية التي يقدمها.

أما الكانتين فتملكه المؤسسة التي تستضيفه أو تستأجره. وهي التي تحدد له قائمة البضائع التي ترغب في تقديمها، كونها ضرورية، وتحدد له نطاق الأسعار أو تتفاوض معه عليها.

يستطيع أي مواطن أن يفتتح بقالة جديدة. لا يحتاج إذناً من زملائه البقالين، الذين لا يملك أي منهم سلطة أن يصيرَ الخيار الوحيد أمام الزبائن. كل بقالة ندٌّ وسط أنداد. هذا يجعل البقالة في حالة منافسة دائمة. البقالة بالتالي عنصر في سباق، يتغيَّر الخط البياني لأرباحها وخسائرها حسب أدائها، وأداء من حولها، وقدرة زبائنها.

الكانتين زبائنه مضمونون إلى حد كبير، وغالباً ليس لديهم غيره. المنافسة منعدمة إن اكتفت المؤسسة بكانتين واحد، ومحدودة إن كان في محيط الشركة أماكن أخرى توفر نفس الفئة من البضائع. قرار بقاء الكانتين أو إغلاقه لا يعتمد بصورة مباشرة على تفاعل زبائنه، بل على قرار الإدارة التي تدير المؤسسة بحالها. والكانتين يسعى إلى تقديم خدمة مُرضية، لكن عليه أن يلتزم سقفَ الميزانية المحددة له. لا يطور نفسه بقرار ذاتي، بل بقرار من إدارة المؤسسة، وفي حدود شروط تعاقدها. وبالتالي فإنَّ تطوره وتدهوره مرتبطان بتطور المؤسسة أو تدهورها، ما يجعله كياناً ذيلياً، لا مبادراً، يتغير مع الأحوال ولا يساهم في تغييرها. السعي إلى تطويره يكون على حساب المنتسبين إلى المؤسسة، زبائنه، إما بنداً إضافياً في الموازنة يزاحم أجورهم، وإما تنعكس تكلفة التطوير على أسعاره فيتكلفون أعباء أكثر. بهذه المراوحة تظل بضاعة الكانتين في حيز «المقبول بالنظر إلى ثمنه». يقدم الخدمة التي يقدر عليها عامة الزبائن. لا يعمل حساباً خاصاً لمن يرغب في أن يدفع أكثر ويحصل على بضائع أفضل.

طوال القرن الماضي انقسم العالم إلى هذين النموذجين. الاقتصاد المركزي الاشتراكي ليس إلا تطويراً لفكرة الكانتين. مؤسسة كبيرة هي الدولة، ومجلس إدارة هو حكومتها، تنشئ عدداً كبيراً من المصالح الاقتصادية التي تحتكر الخدمة في مجالها، أو تخوض منافسة محدودة للغاية. وتحدد لها لائحة الأولويات، كما تحدد نطاق الأسعار. بحيث يصير كلُّ قطاعٍ في البلد كانتينَ متخصصاً.

يقال إنَّ مسؤولاً سوفياتياً زار بريطانيا والتقى برئيسة وزرائها، مارغريت ثاتشر. اصطحبته في زيارة إلى سوبر ماركت. فأبدى الرجل انبهارَه من التنوع في البضائع، لكن سؤالاً واحداً حيَّره. كيف تضبطون أسعار كل هذه المنتجات؟ هل هناك هيئة مخصصة لذلك؟ وكم حجمها؟ فأجابته ثاتشر، وهي ابنة بقال، بأنَّهم لا يفعلون ذلك، لأنَّ السوق والمنافسة هما اللتان تحددان الأسعار، كما تفتحان الباب لكل هذا التنوع، المبني على تنوع طلبات الزبائن.

لن يكونَ من مصلحة الكانتين لا اقتصادياً ولا إدارياً تقديم سلع متميزة، لا يقدر على ثمنها سوى عشرة أشخاص أو حتى خمسين من بين زبائنه الألف. ولو فعل ستكون التكلفة باهظة والثمن باهظاً، بالنظر إلى تكاليف نقلها وحفظها وطاقم خدمتها التي ستتوزع على وجبات قليلة. كما أنَّ من مصلحته ألا يشعر أغلبية الزبائن بوجود مستوى أعلى من البضائع فينقمون على ما في أيديهم. يلغي اقتصاد الكانتين أهمية فروق الثروة. إما لا تجد بضائع تنفق ثروتك لامتلاكها، وإما - إن كانت البضائع متاحة - تدفع فيها من ثروتك أضعاف قيمتها. هناك اتفاق ضمني بين الإدارة والمستهلكين على أنَّ ما يقدمه الكانتين ليس أفضل شيء، لكنه جيد بالنسبة لما يدفع مقابله. لو نظرنا ملياً إلى هذه الخصائص لاكتشفنا أن الكانتين نظام تتوافق فيه رغبات الشمولية مع رغبات الديمقراطية العددية في مجتمع فقير. وقد يجمع الاقتصاد الشتيتين بعدما «يظنَّان كلَّ الظن ألا تلاقيا»؛ إذ النمط الاقتصادي المحرك الأساسي لتوجه المجتمع سياسياً.

لو تتبَّعنا الدورة الاقتصادية العكسية للكانتين، فسوف نجد أن محدودية البضائع، واقتصارها على ما تقرر الإدارة أنَّه الضروري للفئة المستهدفة، سيؤديان إلى تراجع في إنتاج السلع التي تراجع الطلب عليها. نموذج الكانتين كموزع سيملي علينا نموذج الكانتين كمنتج. على المقابل من ذلك، البقالة كيان تفاعلي. يتفاعل مع مستويات زبائنه، ويوفر السلع الخاصة لأصحابها موازناً العرض على مقاس الطلب. هكذا يتوازن مع محيطه سعراً ونوعاً. فتختلف البقالة في الزمالك عن البقالة في فيصل والهرم.والدورة الاقتصادية ماكينة إنتاج الثروة. كلما تضاءلت مفرداتها، كما الحال في الكانتين، تضاءلت قدرتها. تزداد قدراتها بالمرونة والاستجابة للطلب مهما بدا تافهاً ولا ضرورياً؛ إذ القيمة الاقتصادية للمنتج شيء مختلف عن القيمة الجوهرية المطلقة له. الكيان الاقتصادي الناجح كيان يتشمم الطلب ويسعى متحمساً إلى توفير معروض يلبيه. ليس هذا حاضراً في مدى طموح الكانتين، لكنه حاضر في البقالة.

والطلب في الاقتصاد هو الحاجة المقرونة بالقدرة على الشراء. إن كنت تحتاج إلى سيارة ولا تملك القدرة على شرائها، فلست زبوناً مستهدفاً. إن كنت تحتاج إلى سيارة وتملك القدرة على شرائها، لكنها ليست متاحة، فقد استغنت الدورة الاقتصادية عنك وأنت كنزها، أضاعتك وأي فتى أضاعت. من الناحية الاقتصادية سيؤول اقتصاد الكانتين إلى نموذج اقتصادي شبيه بعيادة «طبيب الغلابة». عيادة مهترئة تحت مستوى الجودة ولا تملك القدرة الاقتصادية على التطور. توسوس لك الأخلاق أن تمدحها، ويلعنها آلهة الاقتصاد في كل كتاب. ألا تنفر من وسائل المواصلات المهترئة، والمصالح الحكومية الرثة، مع أنها أيضاً «تؤدي الغرض»؟