علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

محنة مزورة

استمع إلى المقالة

رابعاً، يتبين من الخلاصة التي انتهى صابر أحمد نايل إليها بعد حديثه عن قضية كتاب كيلاني عن الشريف الرضي، أنه ليست لديه معرفة بكتيب كيلاني «ذيل الملل والنحل»، الذي ضمنّه الجزء الثاني من كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، والذي قام بتحقيقه وصدر عام 1961. الفصل الثالث من هذا الكتيب الذي عنوانه «بين الكفر والإيمان» هو تلخيص لما كتبه في أربع مقالات في كتابه «فصول ممتعة» تحت عنوان متكرر هو: منصور فهمي بين الكفر والإيمان، علي عبد الرازق بين الكفر والإيمان، طه حسين بين الكفر والإيمان، أمين الخولي بين الكفر والإيمان. فلو كانت لديه معرفة بهذا الكتيب لأشار إلى هذه المعلومة التي لا يكمل الحديث عن «فصول ممتعة» بدون ذكرها.

خامساً، نظر نايل إلى تحول كيلاني من الإلحاد إلى الإيمان الديني على أنه تراجع، وعلل هذا التراجع بـ«وقع تلك المحنة الهائلة» عليه.

ما سماه بالمحنة بدأت في 5 يونيو (حزيران) سنة 1937، حين تقدم زملاؤه بديوان الأوقاف بشكوى ضده. وبتاريخ 13/4/1939، كان مسجوناً. وسجن - كما أفاد حسين الطماوي - سنة واحدة ثم أفرج عنه.

لا نعلم تاريخ اليوم أو الشهر الذي حكم عليه بالسجن، نحن نعلم أن العام، عام 1939. ولا نعلم تاريخ الإفراج عنه باليوم والشهر والسنة. لذا فلنؤرخ لبداية المحنة بــ5 يونيو 1937. نايل أرّخ لتحوله أو ما سماه بتراجعه، بكتابه «فصول ممتعة» الذي صدر أول عام 1959.

من تاريخ بداية محنته إلى عمله على تأليف هذا الكتاب ثمة سنوات طويلة، تمنع أن يكون قد ألّفه «تحت وقع تلك المحنة الهائلة».

ومن تفاصيل قضيته ما بين عاميّ 1937 و1939، يصعب القول، بأنه قد مرّ بمحنة. فالحكم عليه بالسجن تأخّر مدة طويلة. وفي ظل هذه المدة الطويلة ألّف كتاباً تاريخياً أدبياً عن حسان بن ثابت. فتأليفه لهذا الكتاب يشير إلى أنه لا يعاني من مصيبة حلّت به. ونقده للملك فاروق وللأمير من أسرته ولشخصيات سياسية في هذا الكتاب يدل على أنه غير مبالٍ بما يمر به، وأنه لا يزال قادراً على التحدي والاستفزاز السياسي الخطير.

كذلك فصله من عمله بديوان الأوقاف لم يؤثر عليه بشيء. ففي الصورة الشخصية التي قدمها الطماوي عنه أنه «اتجه إلى المدارس الخاصة ثم عمل كاتباً في الأعمال المدنية التابعة للجيش الإنجليزي في حلوان وجنيفة وفايد، وكان يتقاضى راتباً كبيراً، ادخر منه قدراً، وعند نهاية الحرب العالمية الثانية استغنى الإنجليز عن خدماته، ورأى أن يكمل تعليمه الجامعي، فالتحق بجامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم اللغة العربية... وأثناء تلقيه العلم بالجامعة شحّ المال من يده، وخطرت له خاطرة، وهي إرسال رسالة إلى د. صبري السربوني مدير دار الكتب يطلب فيها توفير عمل له بالدار، وأحاطه بأمره علماً. وجاءه رد السربوني بضرورة الحضور، وتمت المقابلة والتعيين في اليوم نفسه، وكان ذلك عام 1947».

وفي هذا العام صدر له كتابه الثالث الذي سنشير إلى موضوعه فيما بعد.

يتابع الطماوي مسيرته في المنتصف الأول من الخمسينات، فيقول عنها: «ويحصل على الليسانس عام 1950، ويستمر في عمله بدار الكتب، وفي سنة 1953، ينال شهادة الماجستير بتحقيقه ديوان البوصيري لأول مرة مع كتابة ترجمة له ودراسة لشعره... ويأتي عام 1954 بشؤمه فقد تم فصله من دار الكتب في حركة التطهير الثانية، وتضمن قرار فصله عدم أحقيته في تعويض أو معاش».

فأين المحنة فيما رواه الطماوي من سيرته؟ فعمله مع الجيش الإنجليزي الذي ادخر منه مالاً وفيراً، جعله يتفرغ بالكامل للدراسة الجامعية في مرحلة منها. وعمل في دار الكتب لشد أزره المالي ليستكمل دراسته الجامعية. إضافة إلى أنه فتح له باباً واسعاً للاطلاع على مخطوطات نادرة، قام بشرح وتحقيق بعضها، واستفاد من بعضها في كتابة دراسات تاريخية وأدبية، ووفر له الاطلاع على دوريات وصحف قديمة أخرج من خلالها دراسات كشف النقاب فيها عن التاريخ الأدبي المجهول لبعض أعلام عصره، أو التاريخ الأدبي الذي يرغب بعض أعلام عصره أن يكون مجهولاً.

أما فصله من دار الكتب فلا صلة له البتة بكتابه الأول، ولا بأي كتاب آخر له. وكثيرون غيره من مشارب مختلفة شملهم ضرر حركة التطهير الجائرة.

وتضرره من هذا القرار - كما روى الطماوي - لم يستمر طويلاً، فالسبل التي تعرجت أمامه، ما لبثت أن استقامت له بعض الشيء.

ويفهم مما قاله الطماوي عنه، أنه بعد حادثة فصله من دار الكتب، اعتمد في مورده المالي على التحقيق والتأليف وجمع المقالات المجهولة. وقد ذكر أنه «جمع ثروة لا بأس بها بعد السبعين، لكنه لم يستمتع بها أبداً»!

سادساً، كتاب كيلاني الثالث هو «أثر التشيّع في الأدب العربي»، وقد صدر هذا الكتاب عام 1947، حين كان طالباً جامعياً، عن دار نشر كانت وقتها جديدة ومرموقة، تنشر للأدباء والمثقفين الشباب النابهين، وهي: لجنة النشر للجامعيين.

هذا الكتاب ضم موضوعات مثيرة مثل انتحال القول عند الشيعة، ومظاهر انتحال الشعر عندهم على لسان أئمتهم وعلى لسان أعدائهم، ودراسة نقدية لنسبة كتاب «نهج البلاغة» إلى علي بن أبي طالب.

في هذا الكتاب كيلاني مؤمن بالله وليس ملحداً به. وأنا هنا لا أؤرخ لتحوله من الإلحاد إلى الإيمان بهذا الكتاب. لأنه قد يكون جرى له التحول قبل إصداره لهذا الكتاب بسنين قليلة أو سنين كثيرة.

لكن كان على نايل أن يكون عارفاً - على الأقل - بهذا الكتاب، لأنه في ناحية من نواحيه هو امتداد لكتابه الأول عن الشريف الرضي، الذي قدم نايل تعريفاً مختصراً به.

إن نايلاً لو اطلع على مؤلفات أخرى له، إضافة إلى هذا الكتاب قبل إصداره لكتاب «فصول ممتعة» لما كان أرّخ لتحوله بعام 1959. هذه المؤلفات هي: «الحروب الصليبية وأثرها في الأدب في مصر والشام» الصادر عام 1949، و«دروس في تاريخ الإسلام» الصادر في جزأين عام 1956، و«في ربوع الأزبكية» الصادر عام 1958، إضافة إلى تحقيقاته وشروحه لكتب تراثية في هذه الفترة.

ولو اطلع نايل على كتاب رابح لطفي جمعة عن أبيه (محمد لطفي جمعة وهؤلاء الأعلام)، الصادر عام 1991، لعرف أن كيلاني لم يكن مستجداً على الإيمان الديني من عام 1947. وللحديث بقية.