خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل تريد الحرية لجارك؟

استمع إلى المقالة

لم تلدنا أمهاتنا أحراراً كما ندعي، بل ولدننا عالةً، في حاجة إلى من يكفلنا، يطعمنا ويسقينا ويحمينا، ضعفاء لا نقوى على الحياة بمفردنا، ويمكن لجمع من النمل أن يقضي على الواحد منا.

لكننا بشر، لا نرضى بالحقائق التي يرضى بها القط والفأر والنسر والحوت، ونجمّلها بصناعة أسطورة. الصيغة التي تقول: «لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً»، أجمل لغوياً من الحقيقة. والحقيقة أننا نكتسب حريتنا بقدرتنا على تحمل مسؤولية أنفسنا، وباستعدادنا لمواجهة الخطر، أي نقايض الحرية بالأمان كأي كائن في البرية. أما الحرية المصحوبة بالأمان، حرية السلامة من الأذى، فليست سوى اختراع بشري، بموجب «عقد اجتماعي»، بسيط الصياغة، بسيط المنطق، ورغم ذلك لا تدركه إلا مجتمعات متقدمة.

ولدتنا أمهاتنا كائنات تبادلية إذن. نتلقى جمائل ثم نردها. أو نسديها ثم نتلقى مثلها. والحرية هنا ليست استثناءً. العائقُ الأول في طريق حريتنا رفضُنا تقبلَ حريةِ الآخرين. مردوده رفضهم تقبلَ حريتنا؛ إذ شرط الحرية السماحة. لا يمكن أن تعيش حراً في مجتمع لا يتصف بالسماحة. لا يمكن أن تتمتَّع بحريتك، بينما تبذل معظم جهدك في التضييق على حريات من حولك. نعم، تقول إن عندك مبرراتك وثوابتك وعاداتك، لا بأس، لن أناقشك، أنا هنا فقط لأبلغك أن محصلة مبرراتك وعاداتك وثوابتك أننا جميعاً، أنت وأنا ومن حولنا، لن نعيش على حريتنا. لست محور الكون الذي يدور الآخرون حول رغباته. هذا شعورٌ طفولي يترسَّخ في الإنسان في سنوات الكفالة الأمومية. فإن استمر معه لم ينضج، ولا تحمل مسؤولية، ولا تنعم بحرية. وهكذا حال المجتمعات.

نعلم الآن عادة الإنسان. حين يواجه حقيقة تزعجه يخلق أسطورة تجملها. وهنا أيضاً لن يعجز عن ذلك، بل يأتي بالأعاجيب. قامع حريتي الشخصية، في مأكلي وملبسي وشاطئي ومسمعي ومشهدي، سيتحالف مع داعية حريات سياسية. الأول يمارس حريته في قمع حريتي، والثاني يعيش في دور فولتير، ويتلو عليَّ أساطير عن الحق الإنساني في الحرية غير المشروطة بسلوكه. الترجمة: يريد أن يفصل بين الحريات السياسية والحريات الشخصية، فيمنح الأولى لقامع الثانية. مسرحية هزلية لا تخدع إلا الخارجين تواً من سنوات الطفولة. يصدقها مؤدوها ويضحك عليهم الجمهور.

الأمر لا يتعلق هنا بالنقاش حول الحرية، التي نحبها كلنا لأنفسنا، بل بالنقاش حول التفكير السوي، الناضج، المدرك للمعنى، مستقيم العقل بعيداً عن سحر الإنشاء اللغوي، والذي يمثل شرطاً أساسياً لكي يضبط الفرد والمجتمع غاياته وتوقعاته. تريد كذا، الثمن كذا. ليس للإنسان، في صورته ككائن اجتماعي، حقوق إلا في ظل عقد اجتماعي تبادلي. معادلة بسيطة لن تستطيع أسطورة مهما كانت حلاوتها أن تتجاوزها.

وهذا التفكير المستقيم ترياق المواطن العادي من سموم تنتجها مصانع الأساطير الفكرية والأغلفة اللغوية. مَرِضَت دول كبرى مرضاً عميقاً بسبب تبنيها أفكاراً تَعِد بالكفالة الدائمة، متجاهلة أن الثمنَ الاعتماديةُ الكاملة والتسليم الكامل.

لم يكن سبب المشكلة استحالة المعادلة الرقمية لاقتصاد الإعالة فقط، إنما أيضاً خراب المعادلة النفسية للفرد المتلقي للدعاية الآيديولوجية العرجاء. مَعُولٌ كالأطفال ويقارن حياته بمستوى حياة الناضجين. مُنتَجُ مجتمعاتِ الكفالة طفلٌ لا ينضج أبداً، يضرب الأرض بقدميه... أريد أريد أريد، يظن أن ما يناله حق أصيل له، وأن ما لم ينله حقه أيضاً، ولكن مسلوب إلى حين. يظن أن له نصيباً في أملاك الآخرين، فيبرر السطو عليها، أو خفض سقف المسموح به لهم مراعاة لمشاعره. خلقت تلك الأفكار مجتمعات على مقاس سعادة المواطن الكسول منخفض الطموح، وشجعت تكاثره.

الغريب أن المنطق المستقيم، على بساطته، يحتاج حالياً إلى مجهود سابح ضد التيار المغزول من الأساطير والبلاغة. والأغرب أن كل التجارب التي نراها في الواقع لم تنجح في إقناع الفرد المبرمج أن هاواي وهونولولو طريقان مختلفان. إن كانت غايتك الحرب فستصل إليها، وإن كان غايتك السلام فستصل إليه. إن سلكت طريق السماحة والحرية فستتمتع بهما، وإن سلكت طريق العداوة والبغضاء فستنال نصيبك منهما. المنطق مستقيم.