د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

إدارة التنوع في العالم العربي

خلال يومي 23 و24 أبريل (نيسان) الماضيين، انعقدت ندوة في الجامعة الأميركية بالقاهرة مشاركة بين منتدى الجامعة ومركز ابن خلدون، لمناقشة قضية «إدارة التنوع في العالم العربي». هذه الندوة كانت استجابة لواقع عربي صعب لعب فيه البعد الإثني دوراً في الصراعات المختلفة داخل دول عربية. وكان دوري في الندوة هو وضع نوع من الإطار الذي يعطي الحوار توجهاً نحو معالجة الحالة المتوترة، وليس تعميقها باتجاه الصراع. وفي الحقيقة، فإنه لا توجد وصفة سحرية في العالم للتعامل مع قضايا الوحدة والتنوع داخل الدولة، ولكن كان هناك عدد من المدارس الفكرية والسياسية التي حاولت التعامل مع الظاهرة.
وكانت المدرسة القومية في الفكر السياسي تقوم على أن الصلات التي ترتبها العلاقة مع الوطن ينبغي لها أن تتفوق على كل الأبعاد الإنسانية الأخرى، بحيث تخلق رابطة بين «المواطنين» تتعدى الروابط الدينية والعرقية. ولما كان ذلك صعباً، فقد عمدت المدرسة القومية إلى دعم الروابط «القومية»، ومنها كان الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ «المشترك» والمصالح المشتركة. وفي هذه المدرسة، فإن التأكيد على «الخطر» المشترك يصير ممارسة يومية، ويصبح في مقدمة هذه الأخطار السعي من قبل أنواع كثيرة من «الأعداء» لتفتيت الأمة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن الفكر «القومي» إما أنه أنكر تماماً فكرة التمايزات العرقية والمذهبية، أو أنه اعترف بها، ولكنه خلق آليات التنشئة السياسية من تعليم وإعلام، وأدوات حزبية للقولبة السياسية تقوم بتخريج القوميين المتحمسين من كل الأطياف.
المدهش أن كانت النتيجة المتعلقة بالفكر القومي هي خلق حالات مضادة من الأفكار القومية لدى الأقليات، التي تجد نفسها لا تعبر عن ثقافتها وتقاليدها إلا في إطار دولة قومية لها هي الأخرى. وفي العالم العربي، كان ذلك هو ما فعلته المدرسة القومية، ولسنوات طويلة، كانت الإجابة عن سؤال حالة الأقليات في كل دولة عربية واحدة، وهي أن كل الأحوال على ما يرام، بل إن المجيب سوف يرفض توصيف جماعة دينية أو عرقية أو لغوية على أنها «أقلية»، فالجميع مواطنون متساوون، والجميع منصهرون في سبيكة واحدة.
المدرسة الاشتراكية اعتبرت القضية إما أنها مفتعلة تستخدمها الطبقات المستغلة من أجل الحفاظ على سيطرتها واستغلالها للطبقات العاملة والكادحة والفقيرة في الهموم، أو أنها قضية حقيقية، ولكنها لا ينبغي لها أن تجب الروابط الاقتصادية والاجتماعية التي تربط الكادحين ببعضهم، والتي تفوق الروابط الاجتماعية الأخرى. وببساطة، فإن الفكر الاشتراكي اعتبر الرابطة الطبقية أقوى من كل الروابط الأخرى، وفي العموم نظر الاشتراكيون بتشكك بالغ لكل أشكال التنوع والاختلاف داخل الدولة. وكان ما جرى في العالم العربي خلال الستينات في عدد من الدول العربية التي ربطت بين «الاشتراكية» و«القومية»، وأصبح تحقيق «العدالة» و«الوحدة» الطريق لصهر التنويعات المختلفة في دولة واحدة. وفي الحقيقة، وبعيداً عن الأفكار القومية والاشتراكية، فقد كانت الدولة العربية البيروقراطية المتولدة عنهما هي التي خلقت آليات للعنف والخوف قادرة على كبت التطلعات والتقاليد المختلفة. ولذلك فإنه حتى مع تراجع الفكر القومي، وانهيار الفكر الاشتراكي خصوصاً بعد زوال الاتحاد السوفياتي، فإن عملية القهر استمرت حتى مع الدول التي لم تعتبر الاشتراكية والقومية من المذاهب الفكرية المعبرة عنها.
كانت المدرسة الليبرالية هي التي قدمت في بلدان كثيرة من دول العالم حلاً لإشكالية التعدد العرقي والمذهبي والديني في دولة واحدة، من خلال مجموعة من الآليات السياسية. فهي من ناحية اعتمدت على الفرد كوحدة سياسية أولية، واستناداً إلى هذا الفرد، صار هناك صوت واحد لكل إنسان يمارس به السياسة تعبيراً عن نفسه وليس عن القبيلة أو الجماعة. ومن الفردية انبثقت فكرة المواطنة التي تجعل جميع «المواطنين» شركاء في «وطن» واحد على أساس من المساواة الكاملة أمام القانون وصناديق الانتخابات، بغض النظر عن العرق أو الدين أو العقيدة أو اللون أو الجنس. وعلى سبيل المثال، فإن الدستور المصري الحالي يضع في مادته الأولى أن دولة مصر تقوم على مبدأ «المواطنة»، بمعنى أن «هويتها» تقوم على تجمع «مواطنين متساوين» في المقام والقيمة الإنسانية والسياسية. والمادة 40 من الدستور تقول: «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة».
وهكذا وضع الدستور خمسة اختلافات بين المواطنين لا يجوز التمييز على أساسها أمام القانون، كما وضع فارقاً بين «الدين» و«العقيدة»، فهما أمران مختلفان، ومع ذلك، فإن كليهما لا ينبغي حدوث التمييز على أساسه أمام القانون. وفي الواقع، لم تكن المواطنة والمساواة القانونية كافية في كل الأحوال للتعامل مع مشكلات التنوع العرقي والديني والمذهبي عندما ارتبط التنوع من ناحية بالنزعات القومية والثقافية، ومن ناحية أخرى بنزعات للاستقلال عن الأغلبية في الدولة، خصوصاً عندما تتعرض الأقلية لأشكال مختلفة من الاضطهاد. فكان نتيجة ذلك أن قدم الفكر الليبرالي فكرة اللامركزية السياسية والاقتصادية التي تتيح نوعاً ما من الاستقلال وحقوق التعبير تتراوح بين اللامركزية الإدارية والثقافية، والدول الفيدرالية. وفي التجربة العالمية أمثلة لتجارب متعددة تعاملت مع حالات مختلفة من التنوع العرقي والديني والثقافي في الهند والولايات المتحدة وكندا وروسيا وسويسرا ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي مواجهة حالات الانقسام العرقي والديني التي أدت إلى حدوث العنف المسلح في شكل حرب أهلية أو التهديد بها، فإن الفكر الليبرالي توصل إلى فكرة «الديمقراطية التوافقية» التي تقوم على تقاسم السلطة وأساليب العمل فيها، بحيث تمنع الأغلبية من سحق الأقلية أو الاستئثار بالدولة لصالحها. هذه النظرية السياسية تم اشتقاقها من تجارب موجودة بالفعل في العالم مثل هولندا وماليزيا وجنوب أفريقيا، حيث تتفق الجماعات العرقية والدينية المختلفة على قواعد بعينها لإدارة اللعبة السياسية، فضلاً عن درجات مختلفة من التقاسم الرسمي أو الفعلي للسلطة. وفي العالم العربي، فإن أقرب النماذج إلى هذه النظرية كان التجربة اللبنانية التي قامت على تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام، حيث توافق الجمع اللبناني على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، بينما رئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً.
والحقيقة أن هذا النموذج للتعامل مع قضايا التنوع كانت له درجات مختلفة من النجاح والفشل في فترات زمنية مختلفة، وبينما أحرز نجاحاً كبيراً في الدول التي حققت تقدماً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً مثل هولندا وماليزيا وسنغافورة، فإنه حقق نجاحاً محدوداً في لبنان الذي عرف حربين أهليتين منذ استقلال الدولة، ولكنه لم يحقق نجاحاً يذكر عندما تم تطبيقه في العراق لأسباب متنوعة؛ أهمها أن «التوافق» السياسي لم يحدث بين الطوائف والجماعات العراقية المختلفة، كما أن تقاسم السلطة لم يمنع الهيمنة الشيعية عليها، وكان البحث عن «الاستقلال» للجماعة الكردية مخلاً بالتوازنات داخل الدولة. الدولة العربية، قد تحتاج اجتهاداً جديداً وخلاقاً.