د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

حول الهجاء اللاذع للزعيم بورقيبة

يوم الخميس المقبل تكون الذكرى السابعة عشرة على وفاة الزعيم الراحل التونسي الحبيب بورقيبة؛ الرجل الذي لا يمكن الحديث عن تونس دون استدعاء ذكره ولا يمكن فهم تاريخ تونس منذ الاستقلال في معزل عن ربطه بالمشروع التحديثي للدولة الوطنية حديثة الاستقلال آنذاك.
غير أن الملاحظ أنّه بعد تاريخ ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 عاد الحديث عن بورقيبة في تونس، باعتبار أن النظام السابق للثورة كان يتحاشى استحضار بورقيبة كنوع من محاولة إطفاء جاذبية الرجل، وهي عودة حملت معها صبغة التجاذب الآيديولوجي الذي ميز مرحلة ما بعد الثورة وكان بورقيبة بمثابة الحطب المؤجج للنيران المشتعلة بين الاتجاهين المهيمنين؛ وهما الاتجاه الحداثي البورقيبي والاتجاه الإسلاموي.
تتمثل مشكلة الاتجاه الذي أخذ على عاتقه مهاجمة بورقيبة في إظهاره في صورة تتعارض جملة وتفصيلاً مع صورة بورقيبة مؤسس تونس الحديثة وصاحب التجربة الرائدة في مجال المرأة والتعليم والصحة. وإذا ما أردنا تحديد المؤاخذات الأساسية أو جوهر خطاب الهجاء للتجربة البورقيبية، سنجد أنه يمكن اختزاله في نقطتين كبيرتين؛ هما تغريب تونس والزج بها في أتون مشروع علماني يقطع مع الهوية الإسلامية للمجتمع التونسي. وتتمثل النقطة الثانية في تأجيل التنمية السياسية وتأخير الانخراط في العملية الديمقراطية.
إن المهيمن والغالب على خطاب الهجاء هو غياب المقاربة الموضوعية في نقد المشروع البورقيبي، وهو ما يجعل من التواصل مع مثل هذا الخطاب صعباً، وذلك من منطلق أنه يقوم على استعداء بورقيبة وليس تقويم مشروعه ونقده. وهنا من المهم الإشارة إلى أن الموضوعية في النقد هي أرقى أشكال الإنصاف، في حين أن غيابها هو الظلم بعينه، كما أنه من شروط النقد الموضوعية التي تمثل بدورها قيمة أساسيّة من قيم العقلانية، ودونها فنحن نكون أمام خطاب انفعالي غير قادر على تنمية النقاش الوطني.
من هذا المنطلق يبدو لنا أن النقد هو البديل العقلاني والحقوقي لفعل الهجاء، وهو ما يستوجب إعطاء المشروع البورقيبي حقه في البناء.
لقد صنع بورقيبة الدولة الوطنية وأرسى مشروعاً تحديثياً واضح المعالم والرؤى وقام بإعادة بناء الهياكل الاجتماعية القديمة، من ذلك إصداره مجلة الأحوال الشخصية الرائدة في مجال تحرير المرأة من سلطة الهيمنة الذكورية، وأيضاً راهن على التنمية الاجتماعية وخاض تجربة في التعليم فريدة من نوعها قامت على مبادئ إجبارية التعليم وديمقراطيته ومجانيته. وأوكل للصحة اهتماماً مخصوصاً. ويحسب لبورقيبة أيضاً خوضه مسار العقلنة ومحاولة بناء إنسان تونسي أكثر حداثة وعقلانية.
طبعاً للتجربة البورقيبية نقائص عدّة؛ لعل أهمها تهميش التعليم الديني والمؤسسة الزيتونية معرفياً، الشيء الذي خلق تراكماً من الفراغ الديني والجهل بالدين استثمرته التنظيمات المتطرفة التكفيرية، وهو ما جعل العالم يفاجأ من ظاهرة انتداب هذه الشبكات للشباب التونسي الذي هو سليل تجربة رائدة في العلمنة والتحديث.
كما أن الانشغال بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية وإهمال البعد السياسي منها لا يمكن أن يحسب ضد بورقيبة، بل هي من المؤاخذات التي من الأجدر توجيهها للنظام الذي تلا الحكم البورقيبي، لأن التنمية مسار كامل يتراكم شيئاً فشيئاً، ولم يكن بوسع بورقيبة أن يخوض غمار التنمية بكل أبعادها، والحال أن المجتمع قد خرج من الاستعمار للتو ويحتاج إلى تأهيل اجتماعي كامل، فالرجل قدم لتونس ما لم يستطع غيره أن يفعله.
ويجب ألا ننسى أن أعداء البورقيبية في الأمس هم أنفسهم الذين انخرطوا في توجهاته، سواء في مجال المرأة أو غيره من المجالات اليوم، ولم يستطيعوا أن يقدموا بديلهم إلى حد الآن. وهناك من يفسر ذلك بصلابة البناء البورقيبي وتغلغل مشروعه إلى درجة أن لا حل لهم سوى الانخراط القسري لضمان المشاركة والوجود السياسيين.
وفيما يخص التنمية السياسية، فهي جوهر الإضافة المنتظرة من أعداء بورقيبة وخصومه اليوم، وهي الإضافة التي لا تزال تعاني من تعثر حقيقي ما فتئ يحبط توقعات التونسيين، حيث الملاحظ هيمنة التوترات وكثرة الأحزاب والانقسامات والمعارك ذات الطابع الشخصي وغياب البرامج الحبلى بالحلول التي تشبع توقعات الشعب وتعالج المشكلات العالقة.
يبدو لي أن بورقيبة هو من يحق له الهجاء اليوم: ماذا فعل التونسيون بعده؟ أي تراكم جديد تمّ تحقيقه؟ ثم إن بورقيبة لم يدّعِ في خطاباته الكثيرة أنه قدم مشروعاً كاملاً ومتكاملاً لتونس.
إن الخطاب المسكوت عنه صراحة هو أن بورقيبة عبّد الطريق بشكل جعلها لا تتفاعل إلا مع مشاريع للتغيير الاجتماعي تتوافق والهندسة التحديثية للدولة التي أسسها بورقيبة.
بورقيبة كان رجلاً صاحب مشروع ورؤية قابلين للنقد والتقويم، ولكن ليس للهجاء والاستعداء.