سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أدونيس تحت المجهر

تحدّث أدونيس عن سيرته الذاتية في مقابلات، كتب منها شذرات في مؤلفاته. ولعل أمتع وأصدق ما رواه، موجود في كتاب «حوار مع أدونيس»، وهو مقابلة طويلة ومشوقة أجراها الصديق صقر أبو فخر معه. لكن ذلك كله لم يرتقِ إلى مستوى «الاعترافات» التي تروي الظمأ، ويشكو الشاعر نفسه بمرارة من خلو الأدب العربي منها، عازيًا السبب إلى «القمع» و«الكذب» و«النفاق» المستشري.
وكان لي حظ قراءة كتاب «شوقي أبي شقرا يتذكر» بعيد صدوره، الذي نشرت «الشرق الأوسط» ثلاث حلقات منه، حيث يصبّ المؤلف، الذي كان شريكًا في مجلة «شعر» جام غضبه على أدونيس، متهمًا إياه بنسج العلاقات، وجفاء الصداقات، وتسلق الفرص، ويصل المؤلف إلى حد القول إنه كان يعيد صياغة القصائد التي تُنشر في مجلة «شعر» لمن أصبحوا بعد ذلك في الأدب العربي روادًا، وأدونيس أحدهم. كل ذلك بلغة رقراقة، عذبة، لها رهافة قاطعة دون أن تجرح. ما ذكره الشاعر أبي شقرا، يبقى رواية واحدة، والمشهد لا يكتمل من دون تعدد الشهادات ومشاركة الرواة. إلا أنها معلومات تكشف أن ما يُدرّس للطلاب حول حركة الحداثة، باعتبارها حجر أساس، ليس فقط في الأدب العربي، وإنما أيضًا في بناء الفكر والمجتمع في النصف الثاني من القرن العشرين، لا تزال صورته غائمة وضبابية، وفيها كثير من المثالية المفرطة، تحديدًا بسبب الخوف الذي كبّل أقطاب المرحلة، ولا يزال يكمم أفواههم.
كتبوا ورووا كثيرًا، لكن دائمًا بهذه اللغة ذات الحجب التي تدثروا وراءها، بحجة النحت في الجماليات، والارتقاء بالألفاظ أو الصعود الشعري.
ثمة أسئلة كثيرة عالقة. رحل أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وقبلهما يوسف الخال، رواد تلك الحقبة المفصلية والتأسيسية ولم يبوحوا، كما يُتوخى من أصحاب رسالة نذروا أنفسهم للتغيير، وقدّموا نموذجهم مثالاً. لم يقولوا بصدق، أي علاقات ربطتهم، وأي نزاعات فرقتهم، حتى إن قوة لم تكن قادرة على أن تجمعهم عام 1994، حين اقترح أحدهم لقاء في باريس حول مَن تبقى من رواد مجلة «شعر». وبقيت التفاصيل أشبه بكلمات متقاطعة، تحاول أن تلملم نثارها من هنا وهناك، وتظل لوحة بلا أبعادها الإنسانية الأكثر دفئًا وحرارة. وكأنما كان الشعر لهم ونثرهم الذي لا يبتعد كثيرًا عنه، بمثابة المنقذ من البوح الصريح والمريح، والغلالة التي احتموا بها.
وعلى منوالهم نسج كل من تبعهم أو جايلهم. بمقدورك أن تقرأ في قصيدة «لاعب نرد» عن حميميات محمود درويش ما لا يمكن أن تتصوره، لكنها تبقى خبيئة قصيدة. على صفحات «في حضرة الغياب» ما هو أكثر إدهاشًا، لكن التوريات تكبح إحساسك بالامتلاء من المكاشفة. ها هي غادة السمان تنشر رسائل عشاقها، وهذا مرحَّب به، لكنها، وهي الحرة التي تتلمذت أجيال من الفتيات على نظرياتها في قيمة «البوح» وفضائله، هل تملك شجاعة نشر اعترافات بالمواصفات التي تنشدها؟ لا لوم على السياسيين الذين يكتبون سيرًا أشبه ببيانات رسمية، واستذكارًا لأحداث سبق أن نشرتها الصحف اليومية، حين يتقاعس روّاد الحداثة عن تحمّل عبء المصارحة.
لسبب غير مفهوم، حين امتلكت حنان الشيخ شجاعة نشر سيرة والدتها، وكانت امرأة استثنائية في زمنها، في سلوكها ورؤيتها لأنوثتها، صنفت دار النشر كتاب «حكايتي شرح يطول» في خانة «الرواية» لا «السيرة». والفرق شاسع، بطبيعة الحال، وربما لهذا أسبابه في تسهيل التوزيع.
الجميع يتواطأ على الحقيقة، إذن، ويخشى لهبها. وإن دققت البحث فيمَن ينهشون بأصحاب الاعترافات، إن هي حصلت، ستجد أنهم أصدقاؤهم المثقفون وأهلهم الأقربون، قبل أي أحد آخر. من ينسى كيف قامت العائلة ولم تقعد حين بدأ سهيل إدريس بنشر سيرته البديعة «الأدب والحب» ضاربًا عرض الحائط بالحسابات الضيقة، مشرعًا صفحات عمره للتاريخ، لم ينجُ الرجل من غضب العائلة ولا من همز ولمز النقاد، ومع ذلك ذهب إدريس وبقيت مبادرته نموذجًا لكاتب كسر الحواجز، وآمن بالصدق منجاة وخلاصًا. ولا يبتعد عنه إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» الذي ينضح إنسانية وشفافية كالماء المشتهى في كأس من البلور.
بالعودة إلى أدونيس؛ فهو قطب رئيسي في تيار الحداثة الذي وُجهت له اتهامات كثيرة، وكان له بين أتباعه صدى كبير وتأثير عظيم، والبعض يربطه بهزيمة 1948 وما تلاها من إحساس بالانكسار والبحث عن مخارج من النفق المظلم. وهو شاهد ومتورط حتى الثمالة في الدعوة إلى تحطيم الموروث، كما كسر الوزن والقافية، ونعرف عنه كل ما رواه من أحداث في مقالات ومقابلات، كما نعرف سيرته الفكرية التي أعتقد، دائمًا، أنها الأهم. لكن ألم تحن اللحظة ليكاشفنا، كيف عاش هو وخالدة السعيد، شريكة حياته وناقدته الأولى والأهم، تلك المغامرة الأدبية في منزلهما؟ وكيف كان يُرى بصدق من شركائه في «شعر»، ودور كل منهم؟ وأي مزاحمة كانت بينهم؟ وأي صلة كانت له بالماغوط الشاعر الزميل والعديل في المنزل؟ هذا غيض من فيض هائل من أسرار تلك المرحلة ينام عليها أدونيس، وغير مقبول أن يبقى شعراؤنا في نظر قرائهم ودارسيهم، مجرد قصائد تُحلّل وتشرّح، وتظل نفوسهم حبيسة تكتُّمِها المجحِف. مطلوب من أدونيس شهادة للتاريخ، أليس هو صاحب مقولة إن «الثورة الحقيقية هي أن نثور، أولاً، على أنفسنا».