د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

محاربة النار بالنار

يبدو أن مرحلة حكم الرئيس ترمب للولايات المتحدة ستكون حافلة بالتصريحات والمواقف المثيرة، وسيكون محل اهتمام وسائل الإعلام أكثر من رؤساء أميركا السابقين؛ وذلك باعتبار أنه يعتمد كثيرًا على طريقة الفرقعات السياسية. بمعنى آخر، فإننا سنكون أمام استراتيجية اتصال سياسي مختلفة وغير متجانسة مع الصورة التي عملت على تسويقها الولايات المتحدة حول الدولة والبيت الأبيض.
لذلك؛ فإن التصريحات التي تناقلتها وسائل الإعلام حول التوجه إلى اعتماد التعذيب ضد الإرهابيين في السجون، وممارسة أشكال من التعذيب، من بينها ما سماه «الإيهام بالغرق»، كانت تندرج ضمن الفرقعات وجذب الاهتمام وتحويل وجهة الرأي العام الدولي حول نواياه وطريقة مقاربته بالقضايا الحارقة.
طبعا اللافت للانتباه أن حديث رئيس دولة عن شكل بعينه من التعذيب يبدو غريبًا ومثيرًا، وبخاصة عندما يكون ذلك الرئيس رئيس الولايات المتحدة. من جهة ثانية، نلاحظ أن تبريره أيضًا لمسألة العودة إلى التعذيب في السجون، التي طالما أثارت جدلاً وفضائح في الصحافة العالمية، وبخاصة فيما يتعلق بسجن غوانتانامو وعوالم السجون السرية، تضمن بشكل صريح نوعًا من السقوط في سلوك الجماعات الإرهابية، حيث قال «عندما يتم قطع رؤوس مواطنينا وغيرهم من قبل عناصر (داعش)، أو عندما يتم قطع رؤوس من يعتنقون الديانة المسيحية في مناطق بالشرق الأوسط.. كيف تشعر إزاء الإيهام بالغرق خلال الاستجواب...؟» (انظر جريدة «الشرق الأوسط» عدد يوم الجمعة 27 من الشهر الحالي). لم يكن الرئيس ترمب في حاجة إلى التدقيق والدخول في تفاصيل التعذيب، والتحدث عن محاربة النار بالنار.
هناك رسالة واضحة إلى الجماعات الإرهابية، وهو ما يعني أن الحرب على الإرهاب ستكون بندًا أساسيًا من بنود اهتمامات الرئيس الأميركي الجديد، وهذا في حد ذاته مهم من ناحية التوضيح، ولكن في مقابل ذلك نلاحظ وجود مشكلتين؛ الأولى أن الاستراتيجية التي يميل إلى اعتمادها الرئيس ترمب في خصوص محاربة الإرهاب ليست الاستراتيجية المعتمدة نفسها من طرف البلدان المتحالفة ضد الإرهاب، وهو ما يفسر لنا إلى حد كبير بعض أسرار الانتقادات الشديدة اللهجة التي اعتمدها ترمب في الحديث عن الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. وواضح أكثر أن مقاربته لملف المتطرفين التكفيريين لا تخلو من خلافات متوقعة. وهو ما سيعطل الحرب على الإرهاب في حد ذاتها، ويسمح للإرهابيين باستثمار الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها في هذه الحرب.
من ناحية ثانية، نلاحظ تعمد ترمب خلق تشويش حول حربه على الإرهاب من دون الحاجة إلى ذلك. ونقصد بذلك ما أثارته تصريحاته حول التعذيب من رفض من المنظمات الحقوقية، ومن ثمة فإنه سمح بارتفاع أصوات الحقوقيين للدفاع عنهم في الوقت الذي كان من الممكن بالحد الأدنى من الحذر ألا يثير حفيظة هؤلاء، والتورط في الجدل الحقوقي حول الإرهابيين في علاقتهم وحقهم ونصيبهم من حقوق الإنسان عند القبض عليهم.
المشكل الآخر، أن خطاب ترمب حول الإسلاميين المتطرفين يبدو عامًا وفضفاضًا، ومفتوحًا على تأويلات شتى، بل إن الأمر لا يتعدى في خطابه حول الإسلام السياسي بأنواعه، بقدر ما يشمل المسلمين بشكل عام. وهنا مكمن الغموض والذريعة التي سيعتمدها المشروع الراديكالي التكفيري، حيث إن الخطر يتمثل في تحول وجهة الحرب من حرب على الإرهابيين إلى حرب دينية محضة. ومؤشرات عدة تظهر أن عملية تحويل الوجهة المشار إليها واردة جدًا، وظهر أول مؤشراتها منذ خطابات الحملة الانتخابية للرئيس ترمب.
إذن يبدو أننا أمام إدارة جديدة للتوترات والمشاكل الكبرى محفوفة بإمكانات الانحراف عن الأهداف الأساسية، وهو ما قد يؤثر في الحرب على الإرهاب بشكل قوي، ويمكن أن يمنح الخصوم الإرهابيين ذرائع أقوى من تلك التي أدت إلى ظهورهم، واحتجاجهم على تلك الشاكلة الصادمة للعالم.
لم يعلن ترمب بعد صراحة عن خطته في الحرب على الإرهاب، ولم يوضح مقاربته لتفرعات الإسلام السياسي من جهة وللمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى... أي أننا أمام كلام كثير وتصريحات متعددة، وخطاب يعج بالرسائل دون أن نستطيع الحسم بشكل دقيق في ملفات دقيقة ومهمة.
إننا في حضرة خطاب يقوم على مؤشرات مفتوحة ويغلب عليها الطابع التمويهي، وهو ما يزيد في تعقيد كيفية بناء مواقف واضحة ونهائية في صورها كأفكار ورؤى في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة.
الشيء الوحيد الذي يبدو واضحًا وصريحًا وتصريحات هو مساندة إسرائيل، حيث تظهر مؤشرات عدة على أن إسرائيل ستكون مدللة أكثر من أي عهد من عهود الرؤساء الأميركيين السابقين.