إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

المنولوجست عزيز علي

كيف نُسمّي هذا الميل العربي الجارف إلى استعادة «الزمن الجميل»؟ إن الأزمنة والوقائع والتفاصيل لا يمكن أن تتشابه بين ما كان في القاهرة والإسكندرية، مثلاً، وما كان في البصرة وبغداد. ولا بين طنجة وعدن، أو الكويت وبيروت. والكل يعرف أن الزمن الجميل لا يمكن أن يكون جميلاً على طول الخط، رخيًّا مُتمدنًا نظيفًا مُعطرًا بماء الكولونيا. فالجهل كان يغشى عقول العامة، والأمراض تفتك بهم، وحياة الشظف نصيب الأغلبية. لكن يبدو أن مرارة ما نعيش، والآتي أعظم، هي ما تصوّر لنا الماضي على أنه الفردوس المفقود.
والحنين إلى ما فات ليس ظاهرة جديدة. إنه حالة موصوفة. شخّصها في القرن السابع عشر الطبيب الشاب جوهان هوفر، وقدّم أطروحة عنها في جامعة بازل. ومن أشهر أسبابها الحنين إلى الوطن (وفي حالتنا ما كانت عليه الأوطان). واستند فيها إلى حالة الحزن العميق الذي يصيب المرتزقة السويسريين المجندين في جيش لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، حين يستمعون إلى لحن شعبي من بلادهم. وفي عام 1835، دخل مصطلح «نوستالجيا» إلى معجم الأكاديمية الفرنسية. لكن الكاتب والوزير شاتوبريان لم يعتبرها مرضًا، بل مجرد «أسَف». يمصمص الكبار شفاههم ويتأسفون على الماضي.
يكاد هذا الشعور المُمضّ يتطور لدى فئات من مواطنينا لينتقل من «النوستالجيا» إلى «الماليخوليا» أو المزاج السوداوي. وهذا مرض مؤكد درسه الحكيم اليوناني أبقراط، المُلقّب بأبي الطب، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ومن أعراضه الشعور بالكآبة والعجز والدونية وفقدان طعم الحياة. وإذا تفاقم فقد يقود إلى الانتحار. من منّا لا يشعر بالعجز والكآبة، وهو يعيش ما يدور في العالم حولنا وضدنا وبيننا وداخل أوطاننا؟ «الرقعة صغيرة يا أهل الله والشق كبير». هذا ما كان يغنّيه عزيز علي قبل نصف قرن. فنان عراقي كان أول من حمل لقب «منولوجست». كتب عشرات الأغاني السياسية والاجتماعية ولحنها وسبق بها زمانه. تسمع الكلمات على «يوتيوب» فتظنها مكتوبة لوصف يومنا هذا. بالملليمتر. كأننا لا رحنا ولا جئنا. «خوجة علي مُلا علي».
وقبل يومين، كانت هناك مساجلات على موقع للتواصل الاجتماعي حول عزيز علي. فالمغني المثقف الأشيب الأنيق، ذو ربطة الفراشة في أعلى القميص، ظل لغزًا لمن قصروا عن احتوائه. مرّة اتهموه بأنه شيوعيّ. ومرّة بأنه نازيّ. ثم زجّوا به في السجن، أواسط السبعينات، بتهمة الماسونية. وكان هناك صندوق أمانات في مصرف الرافدين مضى عليه ربع قرن ولم يراجعه صاحبه. فتحوه وسلموا ما فيه لجهاز الأمن. ومن ضمن الموجودات ورقة بأسماء شخصيات عراقية، أطباء ومحامين وتجار قيل إنهم كانوا أعضاء في محفل ماسونيّ. والماسونية نشاط محظور عقوبته الإعدام. والنكتة عندنا تقول إن قانون العقوبات البغدادي كان يبدأ بالإعدام، الحُكم الأخف، ثم يصعد إلى ما هو أدهى. ونظرًا لمواقف عزيز علي الوطنية التي عبّر عنها في أغانيه، تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد. أي ماسوني هذا الذي دخل المعتقل في العهد الملكي، لأنه شارك في مظاهرة ضد العدوان الثلاثي على مصر؟
خرج من السجن بعفو عام بعد سبع سنوات. ومات منسيّا عن سبعة وثمانين عامًا. ومن لطائف سيرته أنه أجاد خمس لغات. وكان، في فترة ما، مديرًا لمدرسة الموسيقى، ومُلحقًا ثقافيًا في براغ. وقد عادت أغنياته إلى الواجهة منذ تدهورت أحوال البلد. يتبادلها العراقيون ضمن موجة الحنين إلى الماضي، ويستذكرون معانيها، ويهزّون الرؤوس إعجابًا، بل حسرة. صار عزيز علي موضة. تُقام له، غيابيًا، الاحتفاليات، وتُقدّم عنه البرامج، وتُكتب الأطروحات. ونشرت ابنته مي مقالاً تعترض فيه على من يصوّره فنانًا كوميديًا يدور على المسرح. وقالت إن أباها كان رصينًا يؤدي أغنياته وكأنه يقرأ نشرة الأخبار. ولم يعمل في الملاهي يومًا. ليت أيام الملاهي تعود ويطلع الصباح وتسكت شهرزاد عن الكلام غير المباح.