حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«واحد واحد الشعب السوري واحد»

في الثاني من أغسطس (آب) 2016، سحبت تركيا كل مستشاريها العاملين مع الفصائل العسكرية في حلب، وتوقف الإمداد العسكري. وفي التاسع منه، كرّست قمة الرئيسين بوتين وإردوغان في بطرسبورغ التفاهمات الكبيرة بين موسكو وأنقرة. ومع انتهاء معركة حلب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كشف الرئيس الروسي من اليابان أن كل ما جرى (معركة حلب وعمليات «درع الفرات») كان بالتفاهم مع تركيا، مؤكدًا وقف نار شامل، قبل إطلاق مفاوضات «آستانة» لتحقيق تسوية سياسية.
ساهم التدخل العسكري في سوريا بعودة قوية لموسكو على الساحة السياسية الدولية. واليوم تتمتع روسيا بقدرة حربية تغطي شرق المتوسط وأجزاء من جنوب أوروبا، وأثبتت من خلال الوجود المباشر والتوافقات الإقليمية التي نسجتها، أنه لا يمكن أن يتقرر شيء في سوريا، وأبعد منها، من دونها. بالنسبة للرئيس بوتين وحدها التسوية السياسية (لا أحد يتحدث عن تسوية عادلة) هي العنوان المحوري للسياسة الروسية، لذا استغلت موسكو الانتصار في حلب لتدفع الجميع إلى طاولة المفاوضات، وهي تعلم مدى حاجتها إلى موافقة معارضات وفصائل سياسية وعسكرية متفرقة، على بلوغ الحدود التي تسعى إليها.
عشية بدء الحصار لمدينة حلب، بدأت موسكو الإعداد لمؤتمر «آستانة» الذي سينعقد في 23 من الشهر الحالي، عندما مدت اليد للرئيس التركي الذي خابت آماله من أميركا أوباما (ومن الحلف الأطلسي)، مرات متتالية: الأولى ترك تركيا وحيدة بعد إسقاط السوخوي، والثانية عندما وفّرت واشنطن التسليح والغطاء لـ«وحدات حماية الشعب» لتحقيق الحلم القومي الكردي «روج آفا» على امتداد الحدود الجنوبية لتركيا، والثالثة تمثلت بالموقف الأميركي الملتبس بعد المحاولة الانقلابية. السخاء الروسي بالوقوف بوجه الاندفاعة الكردية، والموافقة على إطلاق تركيا عملية «درع الفرات»، وصولاً إلى الدعم الجوي الروسي في معركة الباب، أُريد منه الاستفادة من النفوذ التركي لدى الفصائل السورية المسلحة، لإطلاق المشروع أعلاه. وساهمت مفاوضات أنقرة العسكرية، بين الضباط الروس وممثلين لفصائل مسلحة في الشمال السوري، منها ما كان موسومًا بالإرهاب، بالتوصل لقرار وقف النار بضمانة روسية وتركية، وهو القرار الذي تلا بيان موسكو الثلاثي.
ولأن موسكو التي يميل ميزان القوى لمصلحتها بقوة، تعرف أن انتصار حلب يوفر لها الحصاد الوفير، وخسارة الوقت تهدد مكاسبها، عملت ولو على حبل مشدود، لمراعاة توازن في الدور والمصالح بين طهران وأنقرة؛ الطرفين اللذين من دونهما يصعب الاختراق السياسي، علمًا بأن حجم التفاهمات مع تركيا، وهذا سنعود إليه، أبرز تضاربًا في الأجندات مع إيران، التي قبلت على مضض، خروج المقاتلين من حلب ووقف العمليات الحربية، إلى اتفاق وقف النار بين النظام السوري والفصائل المسلحة. كما أن طهران أبدت استياء ورفضًا، للباب الذي فتحته الدبلوماسية الروسية، لمشاركة السعودية والأردن ومصر، بما بدا وكأن في الأفق مسعى لمناقشة ترتيبات إقليمية. وليس سرًا أن مساعي إيران لبسط هيمنتها، تمر عبر استمرار الحرب والخراب، ما يتيح لها عبر الفوضى مواصلة مخطط اقتلاع السكان، وتغيير النسيج الاجتماعي في محيط دمشق، وتوطين أُسر أفغانية وعراقية وربما لبنانية في القلمون الغربي، الذي يجري تحويله لمنطقة قواعد عسكرية بعد إفراغه من أهله، لأن سوريا هذه، تتحول عندها إلى خط الدفاع عن الأمن القومي الإيراني كما أعلن خامنئي!!
في الطريق إلى «آستانة» المليء بالعثرات، بدأت تتبلور حقائق جديدة؛ الفصائل العسكرية التي وقعت اتفاق وقف النار، وشاركت مؤخرًا في إطلاق «مجلس قيادة تحرير سوريا»، ستسمي ممثليها إلى المؤتمر الذي حاز انعقاده تفهمًا بالإجماع من مجلس الأمن، ما يعني أن هذه الفصائل هي في موقع القيادة البديلة والممثل الحقيقي للمعارضة الفاعلة على الأرض، وكل جسم لم ينضوِ تحت سقف اتفاق وقف النار، بات بهذه النسبة أو تلك يفتقر لشرعية تمثيلية. هذه المعارضة، هي التي ستبحث مع النظام السوري خريطة طريق للتسوية، قد تتناول حدود التغيير والإصلاحات في النظام وعمل وأداء الأجهزة، وملامح حكومة الوحدة الوطنية، ونوعية المشاركة في الحكم الجديد، إلى التعديلات الدستورية وإجراء الانتخابات، التي ربما بضوء ميزان القوى الجديد، تتجاوز سلبًا، كل ما سبقها من مرجعيات (جنيف وفيينا ومجلس الأمن). وهنا تكمن بالضبط، أهمية التفاهمات الروسية التركية، حيث تعوّل موسكو على أنقرة، لضبط هذه المجموعات، التي باتت اليوم الصيغة الجديدة للجيش الحر الخاضع تسليحًا وتمويلاً للقرار التركي، وهو الشريك في المرحلة المقبلة، يقابله قوى أمر واقع هي الميليشيات التي يقودها الحرس الثوري الإيراني، وهنا يكمن حقل الألغام الكبير.
رغم الدماء والدمار المخيف وطول الصراع، قد لا يكون الوضع السوري ناضجًا لاختراق حقيقي، ولأن الجانب الروسي الذي يدفع لتحقيق تسوية، تمهد لصفقة كبرى إقليمية ودولية، لا يوجد على أجندته وليس من أولوياته إقامة الديمقراطية التي يطمح لها الشعب السوري، فإن الكرة في مرمى المعارضة بكل أطيافها لتقديم قراءة جادة للمسارين السياسي والعسكري، قراءة تعالج وتصحح، وتبلور قيادة قادرة على الربط بين الداخل والخارج، وعلى طي صفحة العسكرة المتأسلمة التي سقط مشروعها، لتهدر مجددًا مدن وبلدات سوريا بالمظاهرات المطالبة بالحرية والعدالة للشعب السوري الذي ما زال يدوي شعاره الكبير: «واحد واحد الشعب السوري واحد»... وإلاّ تكون «آستانة» محطة وأدِ أنبل ثورة شعبية.