ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

«التلوث الفكري»!

يقول شيخنا سعيد بن مصلح السريحي، الكاتب والناقد الحصيف، إن «الكتاب الفاسد، أشدّ خطرًا من الطعام الفاسد»، فالثاني يفسد بعض البدن، لبعض الوقت، بينما يفسد الأول الفكر والذوق وحتى البيئة.
يشير السريحي في نقاش ثقافي، إلى قضية استسهال الكتابة، التي أسفرت عن إنتاج آلاف الكتب خاوية المضمون، وفاقدة لأدنى شروط الصناعة، فهذا السيل الهائل من المؤلفات التي تسوقها المطابع كل عام، لمؤلفين مغمورين كل شروطهم أنهم قادرون على دس حفنة من الأموال في جيوب الناشرين، ليصبحوا بعدها مؤلفين وأهل أدب وفكر ورأي.
يذهلك أن تجد عشرات الكتب التي يتسلق أصحابها أعمدة الأدب، وهي لا تحتوي على مضمون فني أو أدبي!. ثمة جرأة حقيقية على اقتحام هذا النادي، من دون امتلاك أدوات الصناعة. ولعل الأدب - «رواية وشعرًا» - هو الطريق الأسهل لولوج عالم الشهرة والمال، وهما مفسدتان عظيمتان للإبداع الأدبي. فالعام الماضي فقط كان هناك أكثر من 1500 رواية عربية تسابقت لحصد الجوائز المالية السخية، ومثلها مسابقات الشعر والشعراء. وكانت نتيجة هذا «التلوث الفكري» الذي نعاني منه اليوم كتبًا براقة وزاهية الألوان، ولكنها فارغة المحتوى ورديئة المضمون، وهو تلوث يصيب الفكر الإنساني كما يصيب البيئة؛ إذا علمنا أن رواية أو ديوان شعر أو كتابًا تتم طباعة أربعة آلاف نسخة منه يؤدي إلى تدمير 17 شجرة عمر معمرة.
تصيب أول ما تصيب هذه الظاهرة الذائقة الجمالية وخصوصًا بالنسبة للأعمال الأدبية. كتب مؤخرًا الناقد محمد العباس قائلاً: «عندما كنا صغارًا كان الأدب أكثر وضوحًا.. قرأنا قصصًا للأطفال، ثم روايات للشباب، إلى أن تأهلنا لقراءة روايات الكبار.. اليوم انمسحت هذه الخطوط فكل من يخربش يحمل لقب الروائي!».
نتذكر الكاتب والأديب العربي ضياء الدين بن الأثير، (توفي سنة 1239م)، صاحب كتابين عظيمين في معالجة فنّ الكتابة وشروطها وطرق التعبير عنها، أحدهما، كتاب: «المفتاح المنشا لحديقة الإنشا» الذي دعا فيه صراحة إلى إقامة «محتسب» لمنع المتطفلين على صنعة الكتابة والتأليف؛ حماية للذوق وحراسة للفكر، حيث يقول: «وكنت أحب أن يقام على الكتابة محتسب، حتى يتفلس منها خلق كثير، وتستريح جياد كثيرة من ركوب حمير».
أما في كتابه الآخر: «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، فيضع شروطًا للكتابة أهمها: المعرفة في اللغة والأدب والبيان وأمثال العرب وأحوالهم قديمهم وحديثهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكذلك «معرفة الأحكام السلطانية» أي قوانين النشر، إلى أن يصل إلى شرط الوعي والتحقيق والتثبت، يقول: «إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فنٍّ من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي على السلعة في السوق، والسبب في ذلك أنه مؤهَّل لأن يهيم في كل واد، فيحتاج أن يتعلق بكل فن؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وقد يستفيدها أهلها من غير أهلها».
لا يعني ذلك فرض وصاية على أفكار الناس، ولا الحدّ من حريتهم في التعبير، ولا تضخيم قوانين النشر بما يعيق حركة الإبداع، وإنما وضع معايير فنية ومهنية تحد من هذا الاحتطاب الجائر أدبيًا وبيئيًا، وتحمي هذه الصنعة من نهم الوراقين، وحماس المتأدبين. فالخاسر الأكبر هو الكتاب الجاد، والعمل الأدبي الرصين.