د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

أيام أوباما الأخيرة!

منذ فترة ليست بالقصيرة كتبت في هذا المقام عن البداية المبكرة للفترة المعروفة بـ«البطة العرجاء»، التي لا يستطيع فيها الرئيس الأميركي اتخاذ قرارات جوهرية. وبالفعل، فإن أوباما لم يتخذ قرارات جوهرية طوال العام الحالي، وحتى عندما حاول ذلك بطرح تعيين قاضٍ للمحكمة الدستورية العليا، فإن محاولته فشلت فشلاً ذريعًا، لأن المرشحين الجمهوريين الذين لم يتفقوا على شيء، اتفقوا على رفض إقرار التعيين لهذا المنصب، وساندتهم الأغلبية الجمهورية في مجلسي الكونغرس: النواب والشيوخ. وهكذا فإن أوباما حُرم من إمكانية خلق أغلبية ليبرالية في المحكمة الأعلى في البلاد، وترك الأمر كله لدونالد ترامب لكي يعين العضو الغائب عن المحكمة فور توليه السلطة، بينما لا تزال لديه فرص أخرى لتعيين عضو آخر خلال فترة ولايته، لن يشك أحد في أنهما سوف يكونان من غلاة المحافظين.
ولكن معضلة أوباما التاريخية لن تكون فشله في السنة الأخيرة من ولايته في الإضافة لتراثه الذي يذكره له التاريخ، وإنما أن الجزء الأكبر من التراث قد بات مهددًا الآن بالإزالة التامة، ليس فقط لأن القادم إلى البيت الأبيض هو النقيض الكامل لأوباما، وإنما لأن أوباما خلال فترته الثانية لم ينجح في إقناع الكونغرس بعدالة قراراته وقوانينه لكي يمررها، ومن ثم فإنه لجأ إلى ما يُسمى بـ«القرارات التنفيذية» وهي القرارات التي يكون لها قوة القانون ما لم تكن هناك أغلبية الثلثين في الكونغرس لنقضها. ولما كان الديمقراطيون لديهم أكثر من ثلث مجلسي الكونغرس، فقد كان طبيعيًا أن يصدر أوباما قوانينه، وأن تمر من سطوة الكونغرس أيضًا. ولكن الإشكالية في القرارات التنفيذية هي أنه يمكن إلغاؤها بقرارات تنفيذية أخرى، وهذه تقع على رأس أعمال الرئيس الجديد دونالد ترامب، الذي من المرجح أنه سوف يبدأ في إلغاء ما قام به أوباما واحدًا بعد الآخر. قانون العناية الصحية الذي أصدره أوباما ينتمي إلى هذه الفصيلة من القوانين، وهذا ما أعلن ترامب أنه سوف يقوم بإلغائه في اليوم الأول لتوليه السلطة، وقانون الطاقة، وهذا سوف يأتي دوره بعده.
لقد كان وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس، ليس فقط لأنه أول الرؤساء من أصول أفريقية، أو ينتمي لأب كيني مسلم، وإنما لأنه جاء معبِّرًا عن اليسار الليبرالي الذي يعطي بالمقاييس الأميركية دورًا كبيرًا للدولة، ليس فقط في الاقتصاد، وإنما أيضًا في تشكيل المجتمع كله من حيث القيم وقواعد العمل. حمل أوباما معه إلى السلطة تشريع زواج المثليين، ومحاربة الاحتباس الحراري، وتبني صناعات تكنولوجيا، وثورة المعلومات، وفتح الدولة الأميركية للأقليات والمهاجرين الجدد، وكلاهما بات يلعب دورًا أساسيًا في التركيبة السياسية لأميركا. وفي الحقيقة فإن وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وفوزه مرتين في الانتخابات الرئاسية، هو الذي ولَّد التساؤل حول عما إذا كان الحزب الجمهوري قد وصل إلى نهايته السياسية أم لا بعد الأزمة المالية الكبرى في عام 2008، والتورط في حرب مكلفة في أفغانستان والعراق؟
ما حدث هو أن الحزب الجمهوري عاد مرة أخرى، وبقوة، في مجلسي الكونغرس، وحكام الولايات، والبيت الأبيض، وفي لباس انعزالي وحمائي، وربما فاشي أيضًا. ولسوء حظ أوباما أنه خاض المعركة الأخيرة في الانتخابات الرئاسية، وقد ألقى بكل ثقله الرئاسي بعيدًا عن التقاليد الرئاسية في غمار المنافسة كما لو كان هو المرشح وليس هيلاري كلينتون. وكانت النتيجة أن التجمع الانتخابي الذي ضم عائلة أوباما وكلينتون في آخر أيام الحملة في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، جعل التصويت في اليوم التالي ليس على المرشحة الديمقراطية بقدر ما كان على أوباما شخصيًا. وفي اليوم التالي مع التصويت كانت نتيجة بنسلفانيا الرافضة لكلينتون، تصويتًا آخر مضادًا لأوباما. باختصار كان تراث أوباما يتعرض لنزف كبير، ولسوء حظه فإن هذا النزف لم يكن في الداخل الأميركي وحده، وإنما في الخارج أيضًا.
فالثابت أيضًا أن أوباما لم يلقِ بثقله في عامه الأخير وراء هيلاري كلينتون وحدها، وإنما ألقى بكل قدرات الرئاسة الأميركية وراء ديفيد كاميرون في بريطانيا والاستفتاء الذي أجراه حول بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كان هذا الاستفتاء في حد ذاته حماقة سياسية كبرى، ولكن الغرور الليبرالي كان قد وصل إلى مرحلة الظن في التوجه التاريخي في العالم نحو الاندماج والتكامل بين الأسواق إلى درجة هائلة من الثقة التي جعلت نتيجة الاستفتاء مضمونة. ما حدث كان العكس، وأنه لا توجد توجهات تاريخية حتمية على انتصار الليبرالية على الأقل في المدى القصير، فكان «البريكست» والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. كان معسكر اليمين من القوميين البيض يشعل ثورة جديدة في أميركا وأوروبا، ولم يكن التحالف بينهما خافيًا على أحد، فقد كان قادة اليمين الأوروبي ضيوفًا دائمين على المهرجانات السياسية لدونالد ترامب في الولايات المتحدة. وبقدر ما كان مجيء أوباما إلى السلطة تتويجًا لتطورات مهمة في الدول الغربية قامت على الليبرالية السياسية ودمج الأسواق الاقتصادية، والانفتاح على نظام عالمي واحد، فإن أيامه الأخيرة شهدت تراجعًا ليس لأسهمه الشخصية فقط، وإنما تعرض ما بناه للانهيار.
نتيجة هذه الحالة فإن الولايات المتحدة الآن تشهد مشهدًا لم تشهده من قبل، وهو أنه يوجد الآن رئيسان للولايات المتحدة؛ أحدهما في السلطة، والآخر في دائرة الضوء. ورغم أنه من المعتاد في هذه الأمور أن الرئيس المنتخب يتحرك بحذر، ويضع في ذهنه أن عملية انتقال السلطة لا تجري في أميركا وحدها، ولكنها تجري أمام العالم أيضًا، وليس من المصلحة الأميركية أن يظهر للعالم وجود رئيسين للدولة الأميركية، فإن الرئيس المنتخب يتحرك كأنه بالفعل قد دخل البيت الأبيض. وكما خرج أوباما عن التقاليد الرئاسية المتحفظة إزاء عملية الانتخابات، فإن دونالد ترامب لم يراعِ تقاليد وجود رئيس في البيت الأبيض، ليس فقط من خلال الوجود الإعلامي، أو حملات الـ«تويتر» التي يجريها كل ساعة، وبصورة مباشرة، وإنما أيضًا بالدخول في عمليات اقتصادية (إقناع شركة «كارير» بالبقاء في ولاية إنديانا مقابل تسهيلات ضرائبية) وعمليات سياسية كبرى بإجراء مفاوضات مع قادة دول، مثل اليابان، وشركات يابانية، للاستثمار في الولايات المتحدة.
بقي القول إن كل ما يجري في الولايات المتحدة اليوم ليست له سوابق، ومع قيام المراقبين بفتح الآذان والعيون حتى آخرها للمراقبة والمتابعة، فإن الحذر من استنتاجات مبالغ فيها، واجب، لأن أميركا لها دوائرها التي تدور، وحلقاتها التي تتابع، ولم يكن أوباما نهاية التاريخ، ولن يكون ترامب كذلك أيضًا.