د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

زيارة أخرى للتاريخ العربي المعاصر جدًا!

في عام 1990 صدر تقرير التنمية البشرية في العالم الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وللوهلة الأولى بدا التقرير مثله مثل باقي تقارير الأمم المتحدة التي فيها كثير من الأرقام والإحصاءات التي يفترض فائدتها للدول الأعضاء. قام التقرير على النظر لدول العالم من زاوية الدخل، والتعليم، والصحة؛ ومن بعد ذلك تصنيف دول العالم الذي يفيد بعد ذلك في الإجابة عن أسئلة من نوعية لماذا تتقدم دول في هذا المضمار أو ذاك، ولماذا تتخلف الأخرى؟.
مقياس مثل هذا صار نوعًا من قدرة الدول على أن تنظر لنفسها في إطار مقارن وفق مقياس معين، وبشكل فإن ذلك يشجع على الاجتهاد، بحيث تنظر كل دولة كيف يمكن أن تحسن من مكانتها في دول العالم بعد أن نظرت في الجوانب المختلفة التي تتأخر فيها. وبعد أكثر من عقد من صدور التقرير العالمي الأول ومع مطلع الألفية الثالثة صدر التقرير الأول «للتنمية الإنسانية العربية» في عام 2003 الذي شارك فيه عدد من الباحثين والدارسين العرب بحيث يركز على الدول العربية، ومكانة العالم العربي في دنيانا. ولا أدري شخصيًا عما إذا كانت تقارير أخرى قد صدرت بصدد أقاليم العالم المختلفة الأخرى؛ أو أن أصحاب هذه الأقاليم اكتفوا بوجودهم وتصنيفهم في التقرير العالمي.
ولكن المدهش الذي لم يتكرر بالنسبة لمناطق العالم الأخرى أن التقرير المذكور لم يستخدم أبدًا في سياق غزوها، حتى إقليم أفريقيا جنوب الصحراء الذي ورد دائمًا في التصنيف العالمي بعد العالم العربي من حيث سوء الأحوال. في العالم العربي وحده، فيما أعلم، يعلم قادة الولايات المتحدة، ودول أوروبية كثيرة، أن يستشهدوا بالتقرير في خطب رسمية باعتباره شهادة عربية على الفشل العربي، والذي إما يجعل التدخل في الشؤون العربية بما فيها تغيير النظم مشروعًا كما حدث بالفعل في العراق؛ أو أنه يعد الوثيقة الأساسية للثورة على الأوضاع فيها.
وفي الأسبوع الماضي صدر تقرير التنمية البشرية العربية السادس 2016 والذي اختار «الشباب» (من سن 15 إلى 29) موضوعًا للبحث والتركيز باعتبارهم يمثلون ثلث عدد العرب؛ ومن عجب أن الثلثين الآخرين لم يلقيا نفس الدرجة من الاهتمام فيما بعد. وفي عرض مجلة «الإيكونومست» للتقرير بدأت بما كان عليه الحال في مصر في نهاية عام 2010 عندما أفادت مسوحات قومية بأن 16 في المائة فقط من الشباب شاركوا في الانتخابات، و2 في المائة فقط سجلوا في منظمات تطوعية.
هذه الحالة المسجلة من السلبية انتهت بعد أسابيع بالإطاحة برئيس الدولة؛ وقام شباب آخرون في دول عربية أخرى بالإطاحة برؤساء آخرين. وبعد أن كانت خمس دول عربية تعيش حالة من الصراع الداخلي في عام 2002، فإنه بعد خمس سنوات من بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فإن 11 دولة عربية أصبحت تعرف صراعًا داخليًا من نوع أو آخر من الصراع. والآن فإن تقرير التنمية البشرية العربية تنبأ بأنه مع حلول عام 2020 فإن ثلاثًا من كل أربع دول عربية ستكون معرضة للصراع الداخلي. ويمضي التقرير في القول إنه رغم أن العرب يمثلون 5 في المائة من سكان العالم، فإنهم قدموا 45 في المائة من أحداث الإرهاب في عام 2014، و68 في المائة من ضحايا المعارك العسكرية، و58 في المائة من هؤلاء الذين يعيشون في البطالة.
وهكذا تتوالى الإحصائيات المزعجة الواحدة بعد الأخرى من ناحية، ولكنها منذرة في التحليل من ناحية أخرى. فوفقًا للتقرير فإن العنف والثورة يأتيان إلى العالم العربي في دورات خمسية كما حدث في 2001 و2006 و2011، وكل واحدة منها كانت أكثر عنفًا من سابقتها. والمعنى هنا أنه ما إن تهل علينا سنة 2021 فإن علينا انتظار ثورة أخرى، أكثر عنفًا من كل ما سبق مرة أخرى، وكأن ما لدينا بالفعل لا يكفي.
التقرير فيه ما هو أكثر من معلومات وأرقام، ولكن المعلومات والأرقام ليست أمورًا معلقة في الهواء، خصوصًا لو كان محورها المركزي - الشباب - الذين لا تحكمهم فقط الحالة العمرية، وإنما أيضًا المكان في الطوائف والأعراق والنحل المختلفة، والتقسيم الجنسي بين الرجل والمرأة، والمكاني بين الريف والحضر، والموقع من السلم الطبقي.
المجتمعات أكثر تعقيدًا بكثير ليس فقط مما جاء في التقرير، وإنما أيضًا يصعب التنبؤ بمساراتها كما يفعل التقرير بقدر مبالغ فيه من السهولة. الجانب التحليلي فيه كثير من التعسف، ويظهر ذلك بوضوح كبير لكل من عاش وشاهد مباشرة ثورات ما سمي أيضًا في العالم الغربي الربيع العربي، ولم يكن فيها ما يشير إلى ما يرد في التقارير الغربية. ففي مصر، على سبيل المثال، فإن ثورة الشباب لم تستمر أكثر من ثلاثة أيام بين يومي 25 و28 يناير (كانون الثاني)، وبعدها أصبحت الثورة إخوانية صرفة بالعدد والعتاد والتمويل والتنظيم والعلاقات الخارجية، بينما انصرف الشباب إلى حجز المقاعد في استوديوهات التلفزيون. وخلال الأيام الثلاثة الأولى كان أولاد الطبقة الوسطى، بمن فيهم من ينتمون إلى السلطة المصرية في ذلك الوقت، هم الموجودون في الميادين المختلفة، وأكثر من ذلك أنهم كانوا يعملون ولا يعانون لا من ضيق اليد، ولا من ضعف المعرفة، ولا حتى من تدهور العمر المتوقع عند الميلاد. الأجيال المختلفة ليست جماعة اجتماعية معلقة في الهواء، ولكنها جزء أصيل من نسيج المجتمع الذي توجد فيه، وفي بعض الحالات التي يتصرفون فيها كجماعة منشقة كما هو الحال في تشجيع كرة القدم على سبيل المثال، فإنهم في هذه الحالة لا يشيرون إلى نوع تلك الفضيلة التي يقول بها التقرير فهم ليسوا أكثر ديمقراطية من آبائهم، ولا هم بالتأكيد أكثر حكمة، بل إنهم في الحالة المصرية كانوا أكثر غفلة وديكتاتورية من آبائهم.
ما يهمنا هنا على أي الأحوال أمران: الأول أن الدول والمجتمعات العربية تعاني الكثير من نواحي القصور؛ والثاني أن ذلك القصور لا يلتف فقط على تركيبة السلطة في البلدان العربية كما يرى التقرير ويوصي بالشمول للشباب في السياسة حتى ينصلح الحال.
وربما كان ما لا يقل أهمية عن الأمرين أن العامل الخارجي كان ولا يزال مهمًا في كل الأحوال، وعندما غزا جورج بوش العراق معلنًا عن نيته في إعادة بناء الدولة وتغيير نظام الحكم، فإن النتيجة كما نعرفها الآن لا تبعث على السعادة أو الحبور.
ومع ذلك فإن القضية لم تعد فقط أن علينا التحقق مما جاء في التقرير، وبناء سياسات لتلافي ما فيه من قصور، ولكن ربما كان الأهم أن نبحث ونتابع التفاعلات الدولية التي تجري في المنطقة، وفي المقدمة منها ماذا سوف يفعل ترامب بالولايات المتحدة وبنا، وكيف نتعامل مع الحلف الأميركي الروسي المنتظر، فربما نجد ترامب وبوتين يتباكيان معًا على الحالة العربية في تقرير التنمية البشرية؟!