د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

نظرة أخيرة على الانتخابات الأميركية

على الأرجح أنه عندما يصل هذا العدد من «الشرق الأوسط» إلى يد القراء، فإن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية سوف تكون معروفة، وبات لدى الأميركيين والعالم رئيس جديد، سوف تنصرف الأنظار إلى استكشاف الخريطة العقلية له، وفريقه الرئاسي المتوقع. المضمون في كل الأحوال أن العالم لن يكفَّ عن الاهتمام بالسياسة الأميركية لأنها باختصار مهمة، ومثيرة في كل الأحوال. وربما كان أهم ما في عملية اختيار أميركا لرئيسها، أنها على الأغلب كاشفة لاتجاهات وتيارات لا تلبث أن تظهر في بلدان العالم الأخرى، كما أنها إلى حد كبير تبرز تطورات تكنولوجية واجتماعية لا يلبث صداها أن يتردد في بلدان العالم المتقدمة الأخرى. نذكر على سبيل المثال كيف أصبحت «المناظرات» منتشرة في أكثر من 50 دولة في العالم منذ أصبحت حاضرة في الولايات المتحدة منذ المناظرة الشهيرة بين ريتشارد نيكسون وجون كيندي في مطلع الستينات. كما نذكر أيضًا كيف أن «صناعة الرئيس» باتت موضوعًا للبحث والتعليق والأفلام منذ تداخلت التكنولوجيا ودور «صناع الرئيس» في الانتخابات الأميركية. فيا ترى ما الاتجاهات الجديدة التي سوف نسمع عنها أكثر في المستقبل وظهرت جلية واضحة في الانتخابات التي انتهت توًا؟!
الحقيقة الأولى في الانتخابات الأميركية أنها كانت عاكسة لأوضاع اقتصادية واجتماعية عميقة لم يكن أي منها متوقعًا، وبات لها انعكاسات سياسية لا يمكن تجاهلها. فالثورة التكنولوجية الصناعية الثالثة القائمة على المعلومات، والبعض يقول المعرفة، والرابعة القائمة على الذكاء الصناعي قد باتت حاضرة في الواقع السياسي. فرغم ما شاع في نهاية القرن الماضي من أن الثورة التكنولوجية لن تولد مزيدًا من الرخاء فقط، وإنما هي سوف تولد الكثير من الوظائف عالية الدخل، ومن ثم تتحسن أوضاع العمال والعاملين. ولكن الواقع لم يكن كذلك، فالثورة التي ولدت الكثير من المنتجات مثل آلة بحث «غوغل»، وأصدقاء «فيسبوك» وتطبيقات التليفون الجوال، وتغريدات الـ«تويتر»، والتسوق من «الأمازون»؛ فإنها لم تُفضِ إلى كثير من الوظائف. وطبقًا لما جاء في صحيفة «وول ستريت جورنال» في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، فإن شركتي «غوغل» و«فيسبوك» أصبح عدد العاملين فيها لا يتعدى 75 ألف موظف وعامل، وهو ما يساوي ثلثي ما لدى شركة «مايكروسوفت» من عاملين، ومع ذلك فإن القيمة السوقية لأسهمهما تمثل ضعف ما لدى الأخيرة. وعندما جرى شراء شركة «إنستغرام» عام 2012 بمليار دولار، فإن عدد العاملين فيها كان 13 موظفًا. النتيجة الاقتصادية هي فقدان العلاقة ما بين المزيد من التطور التكنولوجي وعدد العاملين، أما النتيجة السياسية فهي أشد عمقًا. فالثابت أنه في الانتخابات الأميركية المنصرمة توًا لم يكن التقسيم بين الناخبين متوقفًا عما إذا كان الناخب الأميركي ديمقراطيًا أو جمهوريًا، عالي الدخل أو منخفض الدخل، ومن الأقلية السوداء أو الأغلبية البيضاء، يمينيًا أو يساريًا، مؤمنًا بالعزلة عن العالم أو لديه الإيمان بضرورة الانخراط فيه، وإنما على بعده أو قربه من الثورات التكنولوجية.
هذه الثورات ولدت أولا أجيالا جديدة من الأميركيين، وعلى الأرجح من المواطنين في العالم؛ وهؤلاء يتصفون بأنهم من «الألفيون»، أي هؤلاء الذين نما وعيهم السياسي مع بداية الألفية الراهنة، وهؤلاء لهم مكوناتهم الفكرية الرافضة لما جاءت به أجيال نمت بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة في العالم. هؤلاء من ناحية يميلون أكثر ناحية «العولمة»، والخروج على «المؤسسة» السياسية بتقاليدها وأعرافها الرجعية، ومن ثم فإنه لم تكن هناك صدفة وقوف هؤلاء داخل الحزب الديمقراطي من ناحية وتأييد «بيرني سوندورز» اليساري الاشتراكي من ناحية أخرى. وكان طبيعيًا وفقًا لذلك أن «الألفيون» وجدوا صعوبة كبيرة في تقبل هيلاري كلينتون بعد فوزها بتسمية الحزب الديمقراطي في الانتخابات. وعلى الجانب الآخر، فإن الثورتين التكنولوجيتين ولدتا نوعًا من «الثورة المضادة» لدى الطبقة العاملة التقليدية في الولايات المتحدة والتي وجدت نفسها تتراجع في السلم الاقتصادي والاجتماعي، وباتت نقاباتها العمالية أكثر اتجاهًا نحو اليمين الجمهوري، وهي التي كانت العمود الفقري للحزب الديمقراطي. هذه الطبقة جنحت إلى جانب دونالد ترامب، وتجاوبت مع نزعاته في رفض حرية التجارة، والاتفاقيات التجارية التي وقعتها الولايات المتحدة مثل «نافتا»، ومنظمة التجارة العالمية، على أساس ليس إخفاق العمال الأميركيين في المنافسة العالمية، وإنما لأن هذه الاتفاقيات غير عادلة في جوهرها.
الحقيقة الثانية التي لا يمكن تجاهلها في الانتخابات الأميركية أن العامل الديموغرافي صار عاملاً للانقسام الأميركي بين هؤلاء المشجعين «للتنوع» في الأعراق والأديان والجنسيات، والنظر إليها باعتبارها جوهر الحقيقة الأميركية؛ وهؤلاء الذين يرون حقيقة أخرى في ضرورة هيمنة البيض الأوروبيي الأصل على الحياة والهوية الأميركية. السبب المباشر كان تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، وبالذات من أصحاب الأصول الإسبانية في أميركا الجنوبية؛ والذين مع الأميركيين من أصول أفريقية باتوا يشكلون أقلية كبيرة لا يحتاج بعدها الحزب الديمقراطي الذي يؤيدونه إلا شريحة صغيرة من البيض، ليكسبوا كل الانتخابات الأميركية من الآن فصاعدًا. من هنا كان جوهر قضية الانتخاب ليس مدى تدخل الدولة في الاقتصاد الشائع في كل الانتخابات، وإنما الموقف من قضية الهجرة، وإجبار 11 مليون لاتيني للعودة، ولو بالقوة، إلى بلادهم؛ وكذلك بناء سور على الحدود الطويلة بين الولايات المتحدة والمكسيك. أما السبب غير المباشر فيبدو أنه تولد مع انتخاب باراك أوباما رئيسًا لأميركا الذي ولد نزعات عنصرية لا يمكن تجاهلها سواء ضد الأميركيين من أصول أفريقية أو من أصول إسلامية، وهو الأمر الذي شاع عن أوباما. وخلال الحملة الانتخابية فإن المرشح الجمهوري دونالد ترامب استغل حالة التحولات الديموغرافية الجارية في أميركا من أجل تعبئة اليمين الأميركي ضد ما رآه نوعًا من «الغزو» للولايات المتحدة سواء بالوجود غير الشرعي أو حتى بالقيام بعمليات إرهابية، كما حدث بالفعل أكثر من مرة خلال المراحل الانتخابية. وببساطة فقد غدت الانتخابات الأميركية قاسية في صراحتها حول الانقسام الكبير داخل ما كان معروفًا تاريخيًا «ببوتقة الانصهار الأميركية» التي يندمج فيها كل من عبر إلى الأرض التي قيل عنها إنها «بلد الأحرار ووطن الشجعان» من كل أنحاء العالم.
الحقيقتان الأولى والثانية على الأرجح سوف تعيشان مع الولايات المتحدة، وربما بقية العالم، خلال المرحلة التاريخية المقبلة، لأن كليهما يعبر عن اتجاهات أكثر عمقًا في الحياة الأميركية، وكذلك الكثير من دول العالم الأخرى التي تباينت ردود الفعل فيها للتغيرات التكنولوجية العميقة والهجرات الديموغرافية الواسعة. وعندما يشير المؤرخون لانتخابات الرئاسة الأميركية 2016 فقد يشيرون إلى دلالة تسمية امرأة - هيلاري كلينتون - لكي تكون مرشحة الحزب الديمقراطي، أو الدور الذي لعبه ملياردير مغامر مثل دونالد ترامب؛ ولكن التطورات التكنولوجية وآثارها، والتغيرات الديموغرافية ونتاجها فقد تكون الأكثر عمقًا في التحليل التاريخي للانتخابات.