د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

دفاعًا عن بوب ديلان

كالعادة، تثير جائزة نوبل للآداب شهية النّقاش والجدل في الفضاء الثقافي العربي أكثر حتى من الفضاءات الأخرى التي يتعامل فيها الفاعلون الثقافيون بطريقة مختلفة تضاهي تصوراتهم المختلفة عنا.
وفي هذه السنة، كان الامتعاض هو رد الفعل الغالب على ردود فعل الكتاب والشّعراء العرب الذين رأوا في إسناد جائزة نوبل للآداب إلى الموسيقي الأميركي بوب ديلان نوعًا من خيانة الأدب المحض.
ولكن قبل مناقشة هذا الامتعاض، من المهم، حسب رأينا، التّوقف قليلاً عند سؤال يتواتر طرحه في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في الأيام التي تسبق الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل للآداب، وهو السؤال الذي يقول: لماذا يهتم العرب بجائزة نوبل للآداب دون سواها من الجوائز؟
يبدو لنا أن العرب يشعرون أن أكثر حقل من حقول الإبداع والإنجاز أقرب إليهم من الحقول الأخرى هو الحقل الأدبي. فالشّعر هو ديوان العرب وعشقهم الأول والقالب الإبداعي الجمالي الذي أفردوا له تصورهم للحبّ وللقيم وللحياة.. بل إن شدّة تعلقهم بالكلّمة وسحر اللغة، جعلت القرآن كنص جمالي إبداعي مفتاح الإيمان برسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم).
لقد تشكلت علاقة مع الشّعر الذي لا يزال في مخيال العرب خلاصة الأدب وعنوانه الأكبر والأرقى؛ علاقة تملك: قرونٌ من قول الشّعر، وفي كل عهد، بدءًا من الجاهلية إلى اليوم. والعرب رغم كل ما أصابهم من عطب حضاري وثقافي، فهم لا يزالون في حالة تعلق تاريخية بالأدب والشّعر، حتى ولو أن معدلات قراءة الأدب المعلنة تكشف عن مقروئية في أدنى الدرجات.
من ناحية أخرى، فنحن ندرك في أعماقنا أننا لم نراهن على الإبداع العلمي في مجالات الطب والكيمياء وغير ذلك منذ مئات السنين. وحتى فوز العالم الراحل أحمد زويل بجائزة نوبل في الكيمياء، لا يمكن الزعم أنّه نتاج حراك علمي مصري عربي، والرجل قد صقل عبقريته في كبرى الجامعات ومراكز البحوث الأميركية. أي أن عبقريته لا تحمل من الانتماء العربي غير المولد وسنوات الدراسة العادية، في حين أن التفتق العلمي كان خارج البيئة العلميّة المصريّة العربيّة.
فواقع البحث العلمي في بلداننا ضعيف ويفتقر إلى الرّهان الحقيقي الجاد والإمكانيات الماديّة والظروف الثقافية العامة المشجعة لروح الابتكار والاختراع والتفكير العلمي الحر والمبدع. بل لا نبالغ إذا قلنا إن البيئة البحثيّة العلميّة في بلداننا هي مقبرة للعلماء وللمبدعين أكثر منها راعية لهم.
هكذا، يمكن أن نفهم تركز الانتباه العربي على جائزة نوبل للآداب دون سواها من الجوائز، باعتبار أنّها أكثر ما يعنيهم من باقة جوائز نوبل.
لنأتِ الآن إلى حالة الامتعاض التي هيمنت على تعليقات غالبية الكتّاب والشّعراء العرب: الظاهر أنّه امتعاض متسرع وغير مُفكر فيه. فالأدب، كمعنى وجماليات، هو أعلى ما يمكن أن تبلغه الفنون الأخرى. لذلك، يتحدث بعض النقاد عن الشعريّة (وليس الشعر)، وذلك من منطلق أن الشّعرية قيمة جمالية ينشدها الرسام ويرنو لها الموسيقي.
من جهة ثانية، فإن بوب ديلان شاعر غنائي، ونحن الأدباء العرب لم نعطِ بعد الشعر الغنائي قدره، ودائمًا نتعامل معه بعنصرية، ونوجه نظرة دونيّة للشعر الغنائي. بل إن الشّاعر الذي يفكر في تخصيص جزء من إبداعه الشعري لكتابة شعر غنائي، نتعاطى معه وكأنه اعتدى على هيبة الشعر والشاعر. ولم ينجُ من هذه المشكلة إلا الشّعراء الذين توافد عليهم الملحنون والمطربون، أمثال نزار القباني ومحمود درويش مثلاً، وليس العكس.
من هذا المنطلق، فإن بوب ديلان لا يتحمل تداعيات علاقتنا الهامشية المغلوطة بالشعر الغنائي. فالرجل صاحب مشروع ومسيرة طويلة، وقد كتب كلمات مئات الأغاني، وكان مبدعًا في مجاله الموسيقي، إضافة إلى مواقفه المدنيّة الحقوقيّة.
وبالنظر إلى مسيرة ديلان الثريّة، وفوزه بعدد هائل من الجوائز المرموقة، وعشرات السنين التي وهبها للأغنية كلّمة وموسيقى، فإنه يصبح جديرًا بجائزة نوبل للآداب، إذ إن صلة ما قدمه للإنسانية بفن الأدب والشعر ليست صلة ملفقة أو طارئة. وهكذا، تصبح جائزة نوبل للآداب شرفًا للموسيقى، وإعادة اعتبار للشّعر الغنائي الذي لا تقلل الأغنية من شعريته بقدر ما تفتح أمام الشّعر آفاق تلقٍ جديدة وجماهيرية أكثر اتساعًا وتحليقًا.
إن العلاقة بين الشّعر والموسيقى عريقة ومتداخلة وقوية، وليس لائقًا بالكتّاب العرب الامتعاض فقط لأن الفائز موسيقي وشاعر غنائي، فمفهوم الآداب شاسع جدًا، وهو يُحسب في ميزان الجائزة ولا يقلل منها.
فقط ما يتأكد من عام إلى آخر أن هذه الجائزة لا تفصل بين مشروع المبدع ومواقفه السياسية والحقوقيّة. ولهذا السبب لم ينل محمود درويش جائزة نوبل للآداب، رغم الصمت السياسي الذي تحلى به في السنوات الأخيرة من حياته.
إن نوبل للآداب هي في ظاهرها أدبية خالصة، وفي كواليسها هي نتاج الأدب والسياسة والمدنية الحقوقيّة.