حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

وماذا لو لم يُفرض إخراج الجيش السوري في 2005؟

في إحدى مطولاته في عام 2004، قال رئيس النظام السوري بشار الأسد: «إن بين لبنان وسوريا تجربة لم تكتمل». وتعددت التفسيرات. قيل وقتها ربما أن هناك اتجاها لاستكمال تطبيق اتفاق الطائف، بمعنى تنفيذ المنصوص عليه الذي يقضي بـ«إعادة انتشار القوات السورية وانسحابها إلى البقاع»، وخصوصا بعد إنجاز التحرير عام 2000 ومغادرة آخر جندي إسرائيلي محتل، وبعد اتساع الجو المعارض للوجود السوري، بدءًا من نتائج الانتخابات عام ألفين إلى بيان المطارنة الموارنة والأدوار التي أدتها منابر عديدة للمعارضة.
لكن ما فات أصحاب موجة التفاؤل، أن لبنان كان يعيش زمن المقولات الشهيرة للأسد الأب، مثل: «شعب واحد في دولتين» إلى «وحدة المسار والمصير» مرورا بـ«ما صنعه الله لا يفرقه إنسان» (...) لذا سرعان ما قدمت التطورات الترجمة للمقولة العبقرية عن تجربة لم تكتمل، عندما مارس الرئيس السوري شخصيا أبشع الضغوط المباشرة لفرض التمديد لإميل لحود رجل النظام السوري، صاحب التجربة الغنية في نهج استتباع البلد وإلحاقه، ولا تزال ماثلة في الأذهان ممارسات وأداء بعض من تعاقب على وزارة الخارجية في تلك المرحلة، إلى تسليم قرار البلد النهائي لـ«والي عنجر» بوصفه الممثل الشخصي للرئيس السوري.
قرار التمديد الذي فُرض على لبنان، وما تلاه من نهج إجرامي، تمثل في استعادة سياسة تصحير البلد من كباره، بإزاحتهم جسديا ولو عبر سيارة تم تفخيخها بألفي كيلوغرام من المتفجرات لإلغاء الرئيس الراحل رفيق الحريري، وإطلاق العسس للترهيب والتخويف، أدى إلى عكسه، فانفجر الاحتقان يوم الرابع عشر من مارس (آذار)، في انتفاضة شعبية نادرة، أدت إلى هزّ نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، وساهمت الحركة الاستقلالية في إجلاء الجيش السوري إلى ما بعد الحدود اللبنانية – السورية.
لو لم تُسقط الانتفاضة الاستقلالية مشروع استتباع لبنان، وتحويله إلى واحدة من المحافظات التي يديرها الحاكم على دمشق بالحديد والنار، لكان (لبنان)، منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011 في وضع آخر.. في قلب النار التي تلف سوريا، في قلب الصراع الإقليمي والدولي الذي يريد أطرافه تحديد حجم التوازنات ونسبة المصالح ورسم مناطق النفوذ على خرائط تُرسم بالدم السوري. كانت طرابلس ستكون شبيهة بما آلت إليه حمص، وعرسال شبيهة بداريا، وبيروت حلب أخرى، وسيكون مصير بقية المدن والبلدات والنواحي على المنوال نفسه.. وكانت ازدادت قوافل اللاجئين الهائمين بحرا.
المواطنون الذين صنعوا انتفاضة الاستقلال، تجاوزوا كثيرًا من الخلافات المناطقية والحزبية والطائفية، ومناكفات الزعماء. أطلقوا موجة شعبية – شبابية، ضد حالة موت سريري كان المتفائل يظن أنها سمة لبنانية، واندفعوا موحدين وبتحرك سلمي نادر تحت شعارات واقعية: عدالة، كرامة، رفض الوصاية، دولة مدنية، وتمسك بالدستور واندفعوا مطالبين بإنجاز الاستقلال الثاني على قاعدة عملية إصلاحية شاملة تحقق مصالحة مع المستقبل.. وأسقطوا الوصاية لمصلحة السيادة والهوية الوطنية.
قبل عشر سنوات ونيف، أنقذت الانتفاضة الاستقلالية البلد مما كان يدبر له في ليل ونهار، لكن اللبنانيين لم يشهدوا طيلة أكثر من عقد كامل فيما بعد إلا تفريطا في هذا الإنجاز، نتيجة غياب مشروع بناء الدولة. فعموما من نالوا الثقة الشعبية مرتين في صناديق الاقتراع، انغمسوا بأكثريتهم في تسويات غير مبدئية، وكانوا شركاء في محاصصة على حساب مصالح حقيقية للناس والبلاد. ولا مبالغة في القول إنه منذ صفقة «الدوحة»، أغلب الذين أوصلتهم انتفاضة الاستقلال إلى الحكم، لم يحركوا ساكنا أمام نهج تجويف الدولة، وقضم السلطة، لمصلحة دويلة «حزب الله» ومخطط الهيمنة الإيرانية.
في الثاني عشر من الشهر الجاري، أُعلن اتفاق كيري – لافروف، لإنهاء الأعمال القتالية في كل سوريا، ولإيصال مساعدات للمحاصرين، وعلى الرغم من كل الثغرات الجدية فيه، تأكد ارتباط كل الأطراف بطرفي الاتفاق: النظام السوري ومعه كل ميليشيات تدخل الحرس الثوري الإيراني. المعارضة السورية وعشرات التنظيمات المسلحة التي تضم في صفوفها «كوكتيلاً دوليًا»، إلى الأكراد وكذلك تركيا التي تدخلت في الشمال السوري.. وتأكد للقاصي والداني أن هذه الحرب، منذ أن اختطفت العسكرة المفروضة ثورة الشعب السوري المدنية، هي حرب إقليمية وحتى دولية، الأرض السورية مسرح عملياتها، وحدود التماس كما حدود السيطرة ترسم بالدم السوري. والأخذ والرد حول الاتفاق، كما حول تعثر الهدنة وحدوث انفجار وحشي ضد حلب، كلها تشي أن مرحلة مفصلية أزفت، وأن قطار إبرام الصفقات الكبرى، السورية والإقليمية والدولية، قد لا يتأخر كثيرا إقلاعه، وقد تكون المنطقة اليوم في مرحلة تفصيل مناطق النفوذ ورسم الخرائط النهائية لحدود الطامحين في الهيمنة، ولبنان هو اليوم في قلب الخطر.
في مارس 2005 شكلت اليقظة اللبنانية أحد أبرز عناصر حماية البلد، لكن التحدي اليوم مختلف بشكل جذري؛ لأن المطلوب يقظة تحول دون تكريس خطف لبنان وأخذه إلى المحور المسمى «ممانعة». مرة جديدة المطروح هو مصير لبنان بتنوعه ودوره وعلاقاته، في ظل انفتاح شهية إيران وتابعها «حزب الله» والقوى المرتبطة به. هذه القوى لم تضيع البوصلة.. فتحت النار.. نفذت، وتتابع ذلك يوميا، التغيير الديموغرافي غرب دمشق ولمسافة طويلة من الحدود مع لبنان، وأحدثت في الداخل اللبناني أكثر من تغيير ديموغرافي على شاكلة «الكيبوتزات» إياها. ورغم ذلك، فإن الصوت الغائب هو صوت أهل الحكم، ربما لانشغالهم بصفقات شخصية، وغض النظر عن ظاهرة تطويع القوانين لتغطية الفساد، إلى التغاضي عن نهج حكم البلد من خارج الدستور.
قبل عقد ونيف من الآن أحدثت القوى الاستقلالية المشتتة اليوم الفارق، وكان الدرس الرئيسي والمحوري هو كيف ننأى بالبلد لحمايته، والدرس اليوم يبقى الحفاظ على صورته وموقعه بشكل كامل حتى لا يكون رغمًا عن أهله في مواجهة أشقائه جزءًا مما يسمى «سوريا المفيدة».