د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا والمصالحة الوطنية

ليبيا في حاجة لتحقيق المصالحة الوطنية والاستفادة من حركة التاريخ التي بيّنتْ كيف قررت بعض المجتمعات طي صفحة الماضي من الظلم والاستبداد، ومنها تجربة جنوب أفريقيا والاستفادة من مشروع مانديلا للمصالحة الوطنية، فالتجربة الجنوب أفريقية كانت ناجحة في استمرار الدولة، ولهذا فإن الاستفادة من خريطة الطريق التي تبعتها حكومة جنوب أفريقيا قد تكون ممكنة، ولا أعتقد أن هناك شعبا في العالم عانى أكثر من جنوب أفريقيا إبان فترة التطهير والفصل العنصري، إلا أنه فضل المصالحة الوطنية ضمن خريطة واضحة المعالم، ضمنت استقرار الدولة وبقاءها، وحيث إن المشهد الليبي اليوم في حاجة كبيرة للتعاطي بشكل واقعي، تُغلّب فيه مصلحة الوطن على مصلحة الفرد أو المجموعة، وهي بذلك تنهج سنة التعايش واستمرارية الحياة، كون العداوات لا تورث.
المصالحة الوطنية تتطلب تغيير الذهنية العامة والإقرار بالذنب والندم من جانب المخطئ، والعفو طواعية من قبل الضحية ثم الدولة بالعفو العام، كما قال تعالى «فاصفح الصفح الجميل» بعد جبر الضرر، وهذا لا يعني ترك المحاسبة والمساءلة والمحاكمة، التي تشخص الخطأ الفردي وعدم الإفلات من العقاب لمن ارتكب الانتهاكات، ليكون تحذيرًا لمن يفكر في ارتكاب جرائم في المستقبل.
المصالحة لا تعني بالضرورة ترك المحاسبة، ولكن يجب أن تكون فردية للمذنب، وليست اتهاما وحكما جماعيا مطلقا، المصالحة الوطنية تتطلب ضرورة جبر الضرر، بمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الانتقالية التي يعرفها المركز الدولي لها على أنها: «مجموعة من التدابير القضائية، وغير القضائية التي تنفذها المجتمعات لمعالجة مخلفات بانتهاكات هائلة لحقوق الإنسان».
العدالة الانتقالية هي توفيق بين القانون ومكونات ثقافة المجتمع من العرف والدين، مع إعادة النظر في الأوضاع السياسية والقانونية وإصلاح القضاء، حتى تحقق معالجة لانتهاكات حقوق الإنسان وإنصاف الضحايا برؤية شاملة لا جزئية، وليس بأخذ الثأر وتكرار المشهد الظلامي السابق، مشهد الظلم والاستبداد والطغيان، كما أن العدالة الانتقالية لا تتحقق باستقطاع بعض الشعب أو ترحيل أو تهجير بعضهم وتعميم الجرم أو توريثه كسياسة العقاب الجماعي.
فالجرم لا يورث، والعدالة الانتقالية في الأصل تستند في مضمونها إلى رغبة المجتمع في المصالحة، لتحقيق الاستقرار وضمان نجاح الديمقراطية، التي هي في الأصل مفهوم تطور من خلال تجارب المجتمعات للتعايش المشترك، فلا ضمان للديمقراطية دون تعايش مشترك بين أفراد المجتمع، فالمصالحة لا تتحقق إلا بتوافق وطني حول حقيقة ما حدث وإصلاح للضرر، وتتطلب العمل على إعادة العلاقات المقطوعة والبدء في بناء جميع ما تهدم في مدن ليبيا بسبب الحرب، والبدء في البناء من دون استثناء أو تأخير أو إقصاء أو تهميش لأي مدينة مهما كان انتماء بعض أهلها في الماضي، والتوقف عن التعامل بمنطق الغالب والمغلوب، فالحرية للجميع، والاختلاف في الرأي حق للجميع لا يمكن مصادرته، والمهم هو الوطن، ويجب ألا نكرر المنهج الظلامي في العقاب الجماعي، وإلا أصبحنا نسخة كربونية منه مستنسخة منه، وعندها لن تتحقق العدالة ولا المصالحة، بل سنتجه نحو مشهد مظلم، لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايته، ولا نتائجه، وسيكون خطرا على السلم الاجتماعي وسلامة الوطن.