هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

الانقلاب التركي في العالم العربي

لم يكن مستغربًا لدي ولا لدى كثيرين غيري ما حدث في تركيا في منتصف يوليو (تموز) الماضي.. لا محاولة الانقلاب على أردوغان ونظامه كانت مستغربة ولا فشلها كان مستغربًا.. ما بدا لي غريبًا حقًا موقف أولئك الذين يؤيدون أردوغان في العالم العربي حتى ظنوا أنه لا يمكن أن ينقلب عليه شعبه، والأغرب أولئك الحزانى على فشل الانقلاب وكأن أردوغان يحتل بلادنا وكنا ننتظر تحريرها على يد "الجيش التركي العظيم" الذي هب لنصرتنا وتحريرنا، ففشل..
هناك من تعامل مع أردوغان باعتباره "حامي حمى الدين الإسلامي"، وفي الجهة الأخرى هناك من دافع عن فتح الله غولن باعتباره القديس الحامي لعلوم العربية عبر مدارسه المنتشرة في كل مكان في العالم ومنها بلدان عربية. وهكذا ليس غريبا أن نجد من يشرح للعامة كيف أن جماعة فتح الله غولن هي النسخة التركية من جماعة الإخوان المسلمين!
ولا أظن أصحاب مثل هذا الرأي يغفلون البعد السياسي الواضح وراء نشأة جماعة الإخوان المسلمين المصرية منذ 1928م، بخلاف الأبعاد الاجتماعية والثقافية وراء جماعة خدمة. ولا يُحتج أمام ذلك بالمشروعات الاجتماعية للإخوان، فقاطرة الإخوان سياسية في الأصل فيما قاطرة «خدمة» اجتماعية ثقافية. هذا غير الاختلاف الآيديولوجي الواضح بين الجماعتين والفضاء المعرفي الذي تملؤه جماعة الإخوان المسلمين والذي ينتمي إلى أمثال رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وغيرهما، فيما تتحرك جماعة خدمة في فضاء صوفي تملؤه مؤلفات ملهم الجماعة فتح الله غولن التي تعلي من قيم المجاهدات الروحية والزهد إلى آخر هذه القيم المكتنزة بالمعارف الصوفية.
إن محاولة التقريب هذه بين جماعتي الإخوان وخدمة أمام القارئ العربي هي في الحقيقة محاولة لضرب شعبية أردوغان في أوساط الإخوان والمتعاطفين معهم في المجتمع العربي، فها هو أردوغان يعتقل ويضطهد خدمة/ الإخوان. أو ضرب شعبية الإخوان في أوساط المتعاطفين مع أردوغان في المجتمع التركي.
لا يختلف هذا الطرح كثيرا عما نشره المتابعون المصريون للحالة التركية على وسائل التواصل الاجتماعي عقب فشل محاولة الانقلاب، حيث فرّغ كثير من المصريين شحنات غضبهم أو فرحهم في تحليلات كانت في حقيقة الحال عاكسة لآرائهم في الإخوان المسلمين من ناحية أو نظام 30 يونيو 2013 من ناحية ثانية، فأجهد مناصرو الإخوان المسلمين أنفسهم كثيرا في جلد الشعب المصري بسقوط الانقلاب التركي. فيما كان مناهضو الإخوان يحاولون إثبات أنه لولا مساعدة أميركا ما كان لأردوغان أن يحتفظ بنظامه، وهناك من تعاطى مع فتح الله غولن حتى دون معرفة بطبيعة الرجل وأفكاره، والأسس الفكرية التي يرتكز إليها، فمناصرو أردوغان كرهوا غولن لأنه يعيش في بنسلفانيا أليس ذلك كافيا على عمالة الرجل؟! أما كارهو أردوغان فدافعوا عن الرجل وجماعته نكاية في أردوغان المعادي للديمقراطية والمحارب للعلمانية، هذا على اعتبار أن غولن حامل لواء العلمانية في تركيا، في تجاهل للأساس الديني الصوفي لجماعة خدمة. كما أن غولن كان في الأساس من أشد مناصري أردوغان وأكثر من ساعده في اللعبة الديمقراطية لهزيمة الأحزاب العلمانية والقومية في تركيا في العملية الانتخابية، قبل أن ينقلب أحدهما على أخيه. وفي هذا الإطار غير المنتج انبرى بعض كارهي أردوغان لنشر مقاطع فيديو أو مقالات صحافية تشير إلى الفساد والإفساد الذي رسخه أردوغان في تركيا، في مجافاة لحقائق الأمور على الأرض، من إنجازات اقتصادية واجتماعية ليست محل خلاف حتى بين معارضي أردوغان أنفسهم.
وخروجا من هذا الانغلاق الساذج الذي وضعنا فيه "كارهو أردوغان ومحبوه" من المهم أن نتساءل حول جدوى الانقلاب على نظام أردوغان ومن وراء هذا الانقلاب؟
نتيجة هذا الارتباك السابق، يبدو أننا نحتاج - قبل مقاربة هذا التساؤل - لذكر بديهية في السياسة الدولية، تشير إلى أن أي تغيير في نظام الحكم في أي دولة، خاصة إذا كانت من الدول المحورية، ومنها تركيا، لا يمكن أن يغفل البعدين الإقليمي والدولي في حساباته، أي أن ألف باء التخطيط لانقلاب أو ثورة هو التوافق - بل يمكننا أن نقول الاتفاق - الإقليمي والدولي.. فعلى من يجهد نفسه لمحاولة إثبات أن هناك بعدا دوليا أو إقليميا في محاولة الانقلاب التركي أن يريح نفسه فهي من بديهيات الأمور، بل إن تحديد الدول ودور كل دولة يكون معروفا حتى لوسائل الإعلام، فما بالك بأجهزة الاستخبارات.. وليس مهما في رأيي تحديد أسماء الدول التي يمكن أن تكون شاركت في الإعداد والتخطيط والإنفاق ورعاية هذه المحاولة الانقلابية، بل الأهم في نظري هو البحث وراء العلة التي يمكن أن تدفع دولة أو عدة دول للعمل على تغيير نظام الحكم في دولة أخرى..
في سياق كهذا من المفيد النظر إلى الصراع الدائر في الإقليم والعالم منذ عدة سنوات، فليست المحاولة الانقلابية في نظري بعيدة عن المشهد في عمومه. من الواضح أن هناك تعمد إحداث فوضى يراد لها أن تطول أكبر قدر ممكن من الجغرافيا السياسية في شمال غربي آسيا تحديدا، ربما لإعادة هندسة الإقليم سياسيا على خلفية مذهبية مرة، أو عرقية مرة أخرى. وصعوبة مثل هذه الهندسة السياسية أمران:
أولهما أنها تعتمد على أبعاد جغرافية تنتمي لكيانات سياسية مختلفة وربما متصارعة، فما يمكن أن توافق عليه إيران الشيعية الفارسية، ليس بالضرورة محل رضا من العثمانيين السنة في تركيا، ولكل منهما أحلام إمبراطورية. كما أن ما يرضي سوريا الخربة تقريبا لن يرضي بالضرورة المملكة الأردنية التي ما زالت تحافظ على تماسكها السياسي وإحداثياتها الجغرافية.
أما العائق الثاني الذي يقف أمام إعادة هندسة الشمال الغربي من آسيا، فهو أن مثل هذا المخطط لا يمكن أن يتم إلا بشكل كلي؛ فكيان سياسي مثل الدولة الكردية مثلا لا يمكن أن يرى النور إلا بموافقة كل دول الإقليم تقريبا، بل والدول الفاعلة في الإقليم من خارجه؛ حيث إن المكون الكردي موجود في إيران والعراق وسوريا والأردن وتركيا، ولا يمكن مقاربة مثل هذا المشروع إلا بتجهيز الأرض في كل هذه الدول وفي دول أخرى تتصل بشكل أو بآخر بهذه الدول.
ربما استطعنا تصور أن أسد سوريا لن يمانع – داخل الغرف المغلقة - في التنازل عن الجزء الكردي منها، بل عن كل سوريا تقريبا لو طلب منه ذلك. أما بخصوص الجزء الكردي في شمال العراق فلا خلاف حول استقلاليته منذ زمن، ولن يكون للعراقيين رأي بعد أن يوافق أو يرفض نظام الولي الفقيه في طهران. ولا أظن أن هناك صعوبة في لعبة الأمم الآن في إقناع النظام الإيراني بالتنازل عن الجزء الكردي في شمال غرب الرقعة الإيرانية – وهي منطقة مزعجة للنظام الإيراني – إذا كان المقابل لذلك هو الاستيلاء على الجزء الجنوبي من العراق العربي، منطقة البصرة وما حولها، وهي منطقة شيعية مذهبيا، وغنية بالنفط، كما أنها تحتل رأس الخليج العربي.
هكذا فإن أكبر عائق أمام هذا الترتيب الإقليمي هو نظام أردوغان، خاصة إذا ما نظرنا إلى الوضع الأردني في سياق ترتيبات أخرى تتصل بالقضية الفلسطينية.
وتكمن مشكلة حكم أردوغان في أنه لا يبدو راضيا عن التنازل عن أي جزء من رقعته الجغرافية، ولا حتى بتنازل بعض الأطراف عن بعض الأجزاء من أرضهم، كما هو موقفه من ريف حلب السورية.
وفق هذه القراءة يصبح طبيعيا أن يحدث انقلاب على نظام أردوغان لانتظار نتيجة من اثنتين:
الأولى أن يتولى نظام آخر مقاليد الأمور في تركيا يمكن للقوى الدولية «التفاهم» معها حول هذه الهندسة الإقليمية الجديدة، ويفضل قطعا أن يكون هذا النظام عسكريا، لا يسمح بتداول المعلومات والاتفاقيات حتى يمكن تمرير مثل هذه المخططات بعيدا عن أعين الشعوب ورقابة مؤسسات المجتمع المدني. أما النتيجة الأخرى فهي إدخال تركيا في الفوضى السورية بما يسمح بإعادة الترتيب الجغرافية بعد سنوات قليلة فيما يسميه البعض "سايكس بيكو الجديدة".
لا شك عندي أن الرجل يعرف جيدا الأبعاد الإقليمية والدولية التي دعمت ومولت وانتظرت نجاح الانقلاب، فهو رجل دولة وخبر السياسة الدولية لأكثر من ربع قرن ولا أظنه يغفل مثل هذه الأبعاد، لماذا إذن يتجاهل أردوغان وحكمه هذه الأبعاد في تصريحاتهم ويصران على اتهام جماعة خدمة وملهمها غولن ليل نهار باعتباره أول الداعمين وآخرهم لهذه المحاولة الانقلابية الفاشلة؟
يبدو أردوغان هنا بين خيارين – في نظري – يتمحوران من جهة حول الثأر من الدول والكيانات التي ربما يضعها أمام عينه الآن، ومن جهة ثانية تصفية/ تطهير الساحة السياسية الداخلية من خصوم نظامه الذين ساعدته المحاولة الانقلابية الأخيرة على كشفهم تماما، وهو ما يقف على ما يبدو وراء تضييقاته الأخيرة العنيفة على جماعة غولن، ربما لأنه رأى في جماعة خدمة البديل المدني الوحيد الآن القادر على قيادة تركيا في حال خلو المشهد السياسي من أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية)، وهناك تقارير سياسية عن إمكانية قيام "خدمة" بذلك، لكنني لا أتصور أن هناك "تفاهمات" وصلت إلى حد المشاركة الفعلية في محاولة الانقلاب، ربما أعطى غولن تطمينات برضاه عن الانقلاب إن تم، لكن المحاولة الانقلابية عسكرية في أساسها. غير أن أردوغان وبعد أن اطمأن لعدم قابلية المجتمع التركي - موالاته ومعارضته - للحكم العسكري انبرى للقضاء نهائيا على البديل المدني الوحيد في الشارع التركي لحزب العدالة والتنمية، وليس خافيا ما في دلالة التسمية التي يطلقها أردوغان على جماعة خدمة (الكيان الموازي).
لا شك أن هذه التسمية على الرغم مما تحمله من دلالات سلبية على المستوى السياسي، فإنها تحمل في الوقت نفسه إشارات دالة على مدى تغلغل منتسبي جماعة خدمة في الجهاز الحكومي ومؤسسات المجتمع المدني، كما تشير إلى الثقل السياسي والاجتماعي لهذه الجماعة في الحياة التركية، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول جدية أردوغان في طلب فتح الله غولن من الولايات المتحدة الأميركية لاعتقاله! فهل يريد أردوغان اعتقال غولن فعلا؟ وهل تمتنع الولايات المتحدة فعلا عن تسليم الرجل لأردوغان؟ إن حال أردوغان هنا كطالب جمرة من النار ليحترق بها، فيما تتحرق الولايات المتحدة لتسليم غولن لكن يبدو أن بعضا من حيائها السياسي يمنعها.
في سياق جانبي مهم من ذلك تنبغي الإشارة إلى طلب بعض هواة السياسة من إمكانية استضافة الدولة المصرية لفتح الله غولن وجماعته، كما تستضيف تركيا بعض رموز جماعة الإخوان المسلمين، في نوع من المكايدات السياسية الساذجة التي لا يمكن أن ينساق خلفها رجل بخبرة فتح الله غولن، وربما تمناها أردوغان نفسه لخصمه الأقوى.