خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الفكاهة والقضاء

نلاحظ في كتب الأدب العربي أنها كثيرًا ما تزخر بفكاهات وسخريات القضاء والقضاة. ومما أتذكره من حياتي الوجيزة في عالم المحاماة في بغداد أننا كثيرًا ما قضينا يومنا في غرفة المحامين نتبادل القفشات والسخريات المتعلقة بالقضاة والموكلين والمتهمين. وكذا الأمر في بريطانيا، حيث توجد مجلدات ضخمة تضم فكاهات المحامين والوكلاء والقضاة. الكثير منها مزينة بصور كاريكاتيرية تصور حقيقتهم بأبلغ صورها. تسري نفس الظاهرة في الأدب الفرنسي المليء بمثل هذه الظرافات والمداعبات اللفظية التي تشكل مئات المجلدات. قد يعود ذلك إلى كثرة تركيز رجال القضاء على الكلمات والحروف واستعمالاتها. فمن أول متطلبات المهنة، مهنة المحامين، الفصاحة والبلاغة وحسن الأداء. طالما سخروا من أحد المحامين لكثرة ما يتفأفأ به في الكلام والمرافعات. سمعه المحامي الفرنسي الظريف مورو جيافيزي وهو يتفأفأ أمام القاضي على ذلك النحو: «أ أ أقول لوووو... يا حضرة الل لل..»، فقاطعه مورو جيافيزي قائلا: «يا سيدي العزيز، عليك أن توجه كلامك هذا ليس لنا ولا لحضرة القاضي وإنما للرب الخالق تعالى ليفهمك»!
ولكن هذا المحامي، بالذات جيافيزي، كثيرًا ما كان ينسى وجوه وأسماء موكليه. وحدث أن طالب رئيس القضاة في محكمة الجنايات بتأجيل قضية معينة إلى يوم آخر. وإذا بأحد الحاضرين في القاعة يقاطعه ويعارض ذلك صارخًا. فالتفت إليه المحامي وسأله وما دخلك أنت في الموضوع؟ فأجابه الرجل: أنا موكلك يا سيدي الوكيل.
كان مورو جيافيزي من مواطني جزيرة كورسيكا التي انحدر منها نابليون. ورشح نفسه للانتخابات فيها وفاز بالفعل بمقعد كورسيكا في الجمعية الوطنية. وآذن ذلك لسيل من تعليقاته ومقاطعاته ولذعاته الظريفة في المجلس. تكلمت النائبة عن الحزب الشيوعي جانيت فرميش فراحت تتهجم عليه كنائب من الليبراليين المحافظين. أخذها الحماس فأشارت إلى قلبه فقاطعها فورا: «آه كلا يا سيدتي. أي شيء تطلبين إلا هذا». فضج النواب بالضحك. وما كان منها غير أن تسحب ما كانت تقوله وتعتذر.
وحدث أن وصل إلى قاعة المجلس متأخرًا ذات يوم على غير عادته. فاضطر للاعتذار وقال: «تأخري يعود لقصة طويلة تذكرني بذلك الزوج الذي عاد متأخرا وهبت زوجته لتؤنبه فقال لها: عذري أطول من أن يقال. ولكن أنت إذا عندك قصة أطول فباشري بروايتها وأنا أنتظر».
وحدث أن سياسيًا ثرثارًا أزعجه بمثل هذه القصة الطويلة وأسهب بالكلام الفارغ فرفع مورو جيافيزي نظارته المفردة، المونوكول، وراح يحدق في المتكلم الأجوف فرد عليه هذا بالقول: يمكنك أن تحدق بي يا سيدي بالمونوكول أو من دون المونوكول إذا شئت. فرد عليه قائلاً: كلا يا سيدي المونوكول لا ينفع معك. أحتاج في الواقع إلى ميكروسكوب!