خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ذكريات لندنية.. العيد في بريطانيا

كلما حل رمضان المبارك وعيد الفطر تذكرتهما عندما مررت بهما عام 1953. لم يكن عدد المسلمين عندئذ غفيرًا في لندن. ولم يكن هناك غير مسجد واحد صغير وبسيط في شرق لندن، المنطقة العمالية البائسة من العاصمة البريطانية. ولكننا سمعنا عن وجود مسجد أكبر وأبهى تحيطه مقبرة للمسلمين بجوار مدينة ووكنغ. ولهذا المسجد ومقبرته تاريخ ظريف يرجع لأيام الحرب العظمى (1914 - 1918)، عندما تطوع عدد كبير من المسلمين في الهند للخدمة في الجيش البريطاني والمشاركة في تلك الحرب.
فعلوا ذلك ونقل بعضهم إلى سوح القتال في الجبهة الغربية (فرنسا وبلجيكا). قتل بعضهم وجرح آخرون. نقلوهم للمعالجة في مدينة برايتن، جنوب بريطانيا. توفي عدد منهم، وتحير الإنجليز فيهم. ثم وجدوا هذه المنطقة حول ووكنغ خالية، فحولوها إلى مقبرة إسلامية، وبنوا فيها مسجدًا لائقًا بضحايا الحرب. توسعت المقبرة بمرور الزمن لتصبح جاهزة لكل المسلمين.
دأبت إدارة ذلك الجامع على ترتيب إفطار في شهر رمضان، والاحتفال احتفالاً مهيبًا بالعيد الذي يليه. يذبحون الذبائح ويطبخون، وينفخون، ويعدون أطعمة هندية لذيذة. سمعنا بها فعقدنا الأمر على المشاركة فيها.
كانت إدارة السكك الحديدية قد خصصت قطارًا لائقًا لنقل هذا الحجيج من المسلمين من محطة واترلو إلى مزار ووكنغ. أخذت مكاني فيه والتقيت هناك بزميلي النحات العراقي عبد الرحمن الكيلاني. كانت العربات مقسمة إلى مقصورات يرتبط بعضها ببعض بممر ضيق. وقفت هناك لأتفرج على الريف البريطاني أثناء مرور القطار.
داهمني شخص باكستاني. سلّم عليّ وأعرب عن مشاعره لي: «عيد مبارك رفيق»، ثم واصل حديثه: من أي بلد أنت؟ من العراق. ما شاء الله! ومن أي مدينة فيه؟ من بغداد. ما شاء الله. صافحني مرة أخرى، واحتضنني. تعرف ضريح مولانا الشيخ عبد القادر الكيلاني؟ معلوم، وزرتُه عدة مرات. يا ما شاء الله، يا ما شاء الله. مبروك عليك.
قلتُ له: هنا في هذه «القمارة» وراءك حفيد من أحفاده. كيلاني أصيل. فتح الرجل عينيه كمن يشاهد منظرًا مذهلاً لا يُصدق. كيف؟ في هذا القطار؟ قلت له: تعالَ معي لأقدمك له، وأعرفك به. فذهل الرجل وتراجع. لا! كيف؟! امتنع عن المجيء. فذهبت لصاحبي وقلت له: هناك واحد في أثرك. امتعض الزميل من كلامي: «أنت يا خالد دائمًا (تجيب) لي مشاكل». ولكنني خرجت وشجعت الأخ الباكستاني على مصاحبتي ليقابله.
أخذ يقبل يديه، وعبد الرحمن يبحلق في وجهي حانقًا. خرج الرجل ليخبر كل أصحابه بأن كيلانيًا في القطار. وما انفك عن تتبع زميلي حيثما ذهب. يجلب له الطعام والشراب، ويقف في المسجد يصلي وراءه.
كنت أبتسم ضاحكًا طوال الوقت. لم يسألني الرفيق عن مهنته. وحسنًا فعل. فعبد الرحمن كان نحاتًا يصنع التماثيل العارية.