خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

المثنى واللغة العربية

آثار العالم الاجتماعي د. علي الوردي، رحمه الله، ضجة بين المثقفين العراقيين بكتابه عن الازدواجية في المجتمع العراقي. لاحظ وسجل هذه الظاهرة التي تجعل المواطن يقول لك شيئا في حضورك، ثم يقول النقيض في غيابك، وترى الكاتب الصحافي يكتب شيئا في مقالاته ويقول شيئا مختلفا كليا لأصدقائه. وهو ما يفعله أكثرنا، نحن معشر الصحافيين. بيد أن الوردي تجنى في حصر كلامه بالعراقيين. هذه الظاهرة شائعة في أكثر بلداننا العربية. وهي تعكس في الواقع صفة أساسية في تراثنا ولغتنا نستطيع أن نلمسه في صيغة المثنى، التي انفرد بها اللسان العربي. لغتنا العربية تتميز عن كل لغات العالم بهذا الاستعمال. لا توجد لغة أخرى تستعمل صيغة المثنى. نراها في أشهر بيت عربي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
امرؤ القيس يخاطبك كما لو كنت شخصين مختلفين. قد تقول إنها لضرورة الوزن، ولكن كان بإمكانه أن يخاطبك بصفتك مفردا فيقول: «قف لنبك من ذكرى حبيب ومنزل»، دون أن يختل الوزن.
يتردد ذلك في الكثير من النصوص العربية. نحن جميعا نستعمل صيغة الجمع للتعظيم. نقول للشخص المفرد حضرتكم. ويعظم الكاتب نفسه فيقول كتبنا سابقا، وكما قلنا بالأمس... الخ. بيد أن الشعراء آثروا صيغة التثنية علما منهم بازدواجية شخصيتنا. هكذا شغفوا بمخاطبة صاحبي بصفته مثنى فينادونه «يا صاحبيّ» بتشديد الياء. كما قال الشاعر «يا صاحبي تقصيا نظريكما... الخ. وحتى الجواهري يستدعي ذكرى أخيه القتيل فيقول:
يا صاحبي إذا أبصرت طيفكما
يمشي إلي على مهل يحييني
وكما «قلنا» نجد حتى في اللهجة الدارجة صورا من ذلك. تسمعهم يشيرون إلى شخص شرير فيقولون: «ما يسواش قرشين». لا يقولون ما يسواش قرش، فلربما تبادر وتشتريه بقرش واحد وتجعله عبدا لديك. تسمع شخصا في السوق يخاطب البقال ويقول «وحياتك تعطيني حبتين بطيخ». فيعطيك بطيخة واحدة؛ لأنه يعرف أن هذا كان مقصدك. ويقول المطرب العراقي «رمانتين بفرد يد ما تنلزم!»
فمع إدراك المطرب الفنان بصعوبة الحصول في الحياة على اثنين أو اثنتين مما يبتغيه، فإنه يواصل اعترافه بهما. ما سر هذه التثنية في لغتنا؟ ربما تجده يرتبط بالازدواجية التي أشار إليها الدكتور الوردي. فكما ذكرت أولا بعاليه، تفترض أن الشخص الذي يكلمك إنما يعطيك صورة واحدة مما في ذهنه، فلديه صورة أو فكرة أخرى لا يدلي بها إليك. تحتاط لذلك فترد عليه بصيغة المثنى. الحقيقة أن الكثير من القضايا الوطنية عانت وتعثرت بسبب شغفنا بالتثنية. حاكم ومحكوم وظالم ومظلوم. معظم شعوب العالم تؤمن بالجمع، ولكننا نولع بالتثنية فنطلق «مثنى» اسما علما لمن نحب، تيمنا بالمثنى الشيباتي. وهو كذلك شخصان مزدوجان، كأي واحد منا.