سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT
20

سقطة أمين معلوف

«غلطة الشاطر بألف». وأمين معلوف حاذق في الأدب بالتأكيد، لكنه رخو الآراء، وضعيف في الحساب. فظهوره على شاشة إسرائيلية، قد يحقق له بعض المكاسب السريعة، لكنه يترك ندبة سوداء على سيرته، في عيون ملايين القراء العرب الذين حملوا له إعجابًا كبيرًا واعتزازًا جمًّا. معلوف دخل الأكاديمية الفرنسية لأصوله اللبنانية، كما اختير لها آخرون في الفترة عينها، لأصولهم غير الفرنسية تحديدًا، ولرغبة في فتح هذا الصرح الاستثنائي، أمام فرانكفونيين آتين من مشارب متنوعة. ومعلوف في فرنسا، معروف بلبنانيته وشرقيته، كما بنبرته الدافئة وأفكاره التسامحية، فلماذا أراد الآن من نفسه، أكثر مما يطلب منه؟ بماذا يفكر أمين معلوف؟ وما الذي يرمي إليه؟
لوثة إرضاء الغرب صارت مرضًا مستفحلاً. تقرأ روائية تذكر بمذهبها عشر مرات، في رواية واحدة، كي تلفت إلى اضطهاد العرب للأقليات، وتفوز فوزًا مبينًا. وتجد آخر يتقصّد الكتابة عن أهل طائفته المعذبين لينال ترجمة على طبق من ذهب، وحدّث ولا حرج عن النساء اللواتي يمتطين نسويتهن وما تعانيه المرأة ليتسلقن سلم المجد الغربي، أو ذاك الذي يرثي للمثليين في بلاده، كي يحظى بلجوء سياسي. والبائس في هذه التجارة، أنها لا تنتج حليبًا دسمًا، وإنما بعض الدعوات، وترجمات لا يقرأها أحد، ومؤتمرات تنتهي ولا يعرف بها إلا أصحابها، وحلقة المنتفعين من حولهم.
لم يكن أمين معلوف يومًا، عروبيًا كبيرًا ولا وطنيًا حماسيا، وهو على كل حال، لا يحب ذلك ولا يستسيغه، ولم يطالبه أحد بتعديل موقفه المليء بالظلال الذي حافظ عليه منذ كتابه الأول. وقد أحبه الفرنسيون ومنحوه «غونكورهم»، كأديب يحب الوقوف عند التقاطعات، ويعشق عمل التوازنات، ويعفّ عن الصدام، ولم ينتظروا منه أفضل، كي يدخلوه أكاديميتهم، ويجعلوه من الخالدين.
هذه المرة أخطأ أمين معلوف في التموضع، الذي يدرسه جيدًا، في العادة، كما ينتقي كلماته، ويقول إنه يحذرها ويرتاب منها؛ إذ إن أكثرها شفافية - في رأيه - غالبًا ما يكون أكثرها خيانة. وإحدى هذه الكلمات المضلِّلة هي كلمة «هوية» تحديدًا.
ومعلوف على حق، فالنخبة العربية، وهو أحدها، تائهة، وهويتها الملتبسة ليست فقط قاتلة لها، وإنما سامة لمحيطها الذي يفترض أنها قدوته ونموذجه وضميره. البعض يتساءل، لماذا تم العفو عن عملاء لبنانيين، مارسوا الخيانة فعلاً وحملوا السلاح ضد أبناء وطنهم، كما تم العفو عن سياسيين لبنانيين تعاملوا مع إسرائيل وأعلنوا توبتهم، فيما تقوم الدنيا، ولا تقعد، إذا أطل أمين معلوف، بمقابلة، تحدث فيها عن كرسيه رقم 24 في الأكاديمية الفرنسية والـ18 فذًا الذين سبقوه عليه. بالتأكيد بمقدور أمين معلوف أن يعطي ما يشاء من المقابلات لمحطات أو إذاعات أو صحف إسرائيلية. وله أن يتخذ ما يحلو له من المواقف، حتى لو صدمت قراءه أو أزعجتهم، فكل حرّ بما يفعل. لكن السؤال ما الذي يمكن أن يجنيه أمين معلوف؟ وهل يظن أن مجده لن يكون إلا صناعة غربية، حتى لو حاز نوبل، وهو ربما ما يسعى إليه؟
لم يبالِ محمود درويش بالجوائز، ولا باستجداء أحد، كتب حبه لفلسطين وعروبته، ولون شعره الفحمي ولون عينه البني، وعن عقاله وكفه الصلبة كالصخر تخمش من يلامسها، وعن كروم أجداده التي سلبت، وقال غير وجل: «أنا لا أكره الناس، ولا أسطو على أحد، ولكني إذا جعت، آكل لحم مغتصبي، حذار حذار من جوعي، ومن غضبي». ومضى الشاعر إلى قبره غير عابئ إلا بكلمة حق يقولها، ومن هنا عظمته. ونال نجيب محفوظ نوبل، واتهمه البعض بتنازلات أمام «كامب ديفيد»، لكنه على أي حال كان يستحقها، وترجم إلى لغات الأرض لكنه بكل تأكيد، لم يقرأ ولم يعشق بأي لغة، ولن يبقى حيًا، في أي ضمير غير الضمير العربي الذي خاطبه بصدق وحساسية مذهلين. أمين معلوف كتب بالفرنسية، وقرأ بلغات العالم، وحاز الشهرة والجوائز، ومع جنسيته الفرنسية، بقي لبنانيًا أولاً في عيون كثيرين. وهو يخطئ كثيرًا، إن ظن أن فرنسا تغنيه عن حب لبنان والعرب له. فجبران خليل جبران وضع كتبه بالإنجليزية وترعرع في بوسطن، وعند موته عاد ليرتاح في بشري، وله في وطنه من العشق ما يوزع على العالم. قد تكون مقولة «لا كرامة لنبي في وطنه» صحيحة، لكن لا ذكر لأديب يبقى، من غير تقدير قومه. وأمين، ابن رشدي المعلوف صاحب الـ«مختصر المفيد» قال في إحدى مقابلاته القديمة، إنه لا يزال «يرى مناماته بلغته الأم»، وتحدث عن حزنه لخسارة اللغة العربية لفرصها، لأنها لا تستثمر بعدها الإسلامي كي تنمو وتترعرع، كتب في البداية بالعربية، ولم يكن يتخيل يومًا أن ينتقل للفرنسية. وهو، يحتاج اليوم، ربما، أكثر من أي وقت مضى، أن يستعيد بهدوء، تجارب غيره من الأدباء، ويعاود مشاهدة مقابلته على تلفزيون «إسرائيل 24» حيث تبعه مباشرة، وفي البرنامج نفسه خبر عن فيلم للفيلسوف الفرنسي اليهودي، العاشق لإسرائيل برنارد هنري ليفي، الذي يجوب العالم، طولاً وعرضًا، ليؤكد حق إسرائيل في الوجود، ويخدم مصالحها.
نحن لا نطالب أمين معلوف أن يصبح نسخة عربية عن ليفي، لا سمح الله، وإنما فقط أن يحتفظ بحياديته التي كان يختبئ وراءها، ونحن له من الشاكرين.