في عالم الإعلام، لم يعد السؤال المُهم اليوم هو: من يملك المنبر؟ بل: من يتحكم بمصادر بقائه. فالصحافة المؤسسية، في عالم يتبدّل بسرعة الضوء، أضحت كسفينةٍ تُبحر في بحرٍ تعصف به الرياح من جانبين: رياح السوق التي تدفعها منصات التكنولوجيا العملاقة، ورياح السياسة التي تهب من عواصم الدول، ومن قرارات المُمولين من رجال الأعمال.
لقد انهار أنموذج الإعلان الكلاسيكي، الذي موّل الصحافة قرناً كاملاً، وتحولت عائدات الإعلان الرقمي إلى أرخبيل تحتكر ممراته شركات قليلة؛ فـ«غوغل» و«ميتا» لا تزالان تستحوذان على جزء ضخم من الإنفاق الإعلاني الرقمي، وتحدد خوارزمياتُ البحث والتواصل مقدارَ ما يصل إلى القارئ، ومن ثم مقدار ما يعود إلى الخزينة.
وبينما يزداد جمهور الأخبار عبر الهواتف والمنصات، تتناقص الحصة التي تعود إلى الناشر، وزاد المشهد تعقيداً مع صعود أدوات الذكاء الاصطناعي، التي تتغذى من الأخبار، لتعيد إنتاجها في واجهات جديدة. وقد بدأت المنصات نفسها تعقد صفقات ترخيص محتوى لأجل تدريب نماذجها وتغذية «روبوتاتها»، ما يفتح باباً جديداً للتفاوض، لكنه لا يغيّر حقيقة اختلال ميزان القوة بين صُناع المحتوى، والمُتحكمين في ممرات توزيعه.
أمام هذا الاختناق، راحت تجارب عالمية تبحث عن مخارج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ففي أوروبا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية، تَرسّخ نموذج الاشتراكات الرقمية والعضويات، لا بوصفه جدار دفعٍ فقط، بل عقد ثقة: القارئ يدفع، لأنه يشعر بأنه شريك في خدمة عامة، وأن المال يذهب إلى تحقيقٍ عميق ومعلومةٍ مُدقَّقة، لا إلى صخب عابر.
وقد بينت الخبرة أن الاستدامة تزداد حين تتنوع الموارد؛ بين اشتراكات وعضويات، وخدمات بحثية متخصصة للشركات والجامعات، وفعاليات مدفوعة تجمع الخبراء والجمهور حول ملفات حية، ومنتجات صوتية ومرئية ذات قيمة مضافة، ثم مِنح خيرية منضبطة بحوكمة شفافة تمنع الجهة المانحة من التحول إلى غرفة تحرير بديلة.
وفي الاتحاد الأوروبي ودول مثل أستراليا وكندا، اتجهت التشريعات إلى إلزام المنصات الكبرى بالتفاوض على مقابل للأخبار، بعدما صار الاحتكار الإعلاني والوسيط الخوارزمي يهددان معاً بقاء المهنة نفسها. هذه النماذج لم تُلغِ الأزمة، لكنها قدمت أدواتٍ لتخفيفها؛ عبر توسيع قاعدة التمويل الشعبي، وتعظيم حسِّ السوق بالمسؤولية الاجتماعية، من خلال سنِّ قوانين المنافسة العادلة.
أما في منطقة الشرق الأوسط؛ فالمعادلة أكثر تعقيداً، لأن الحكومة ورجل الأعمال كثيراً ما يجلسان على المقعد نفسه. فسوق الإعلان محدودة نسبياً، والإنفاق الاستهلاكي على الأخبار ضعيف تاريخياً، وهنا تبرز الإعانات الحكومية، والإعلانات الرسمية، والموارد ذات الخلفية السياسية، لتصير شرياناً حيوياً للبقاء.
وهكذا، تُصبح الاستدامة المالية مُمكنة من حيث الأرقام، لكنها مُهددة من حيث المعنى؛ لأن المال حين يأتي من جهة ذات أهداف سياسية مُحددة، يتحول إلى قيد ثقيل فوق الكلمات.
ومع ذلك تلوح فرص جديدة في فضاء المنطقة؛ فنمو السوق الرقمية بوتيرة سريعة، والارتفاع النسبي في عائدات الإعلان، وتوسع قاعدة الشباب الباحثين عن محتوى موثوق يتجاوز الدعاية والاستقطاب؛ كلها عوامل تقدم فرصاً كما تطرح تحديات. هذه الفرص لا تُثمر تلقائياً، لكنها تمنح الصحافة المؤسسية مادة أولية لإعادة البناء.
وأما الحلول الفعّالة، فلا تبدأ من تبني أنموذج واحد، بل من هندسة توازن مرن. أولاً، على المؤسسات الصحافية أن تُعيد تعريف مهمتها لجمهورها؛ بوصفها صحافة إبلاغ وتفسير وتحقيق، لا مجرد إعادة تدوير لما تفيض به «الشبكات الاجتماعية». هذا التحول شرط لتوسيع الاشتراكات والعضويات حتى في بيئات لا تعتاد الدفع، عبر عروض مرنة وأسعار متدرجة، وحزمٍ مهنية للطلاب والباحثين، وربط الاشتراك بمنافع معرفية وتعليمية تجعل الدفع استثماراً في الذات لا ضريبة على الفضول. ثانياً، يجب تنويع الدخل بعيداً عن المُمول الواحد، عبر وحدات بيانات وتقارير قطاعية، واستشارات تحريرية، وذراع تدريب مهني مُعتمدَة، واستوديوهات إنتاج للمنظمات والأسواق، مع إقامة جدار أخلاقي صلب بين الإيرادات والتحرير، كي لا يتحول المُمول إلى رئيس تحرير مُستتر. ثالثاً، من الضروري سن تشريعات تكفل شفافية الملكية وتوزيع الإعلان الحكومي على أسس مُعلنة تحد من التركز الاحتكاري، لأن سوقاً مُغلقة بيد قلة تمنح التمويل ستؤدي إلى فرض أجندات تحريرية مُعينة. رابعاً، وعلى مستوى العلاقة مع عمالقة التكنولوجيا، لا مفر من التفاوض الجماعي والاتحادات الإقليمية، التي تفرض حضور الناشر في معادلة الأرباح، وتطالب بمقابل واضح لاستخدام المحتوى، سواء في محركات البحث أو في منصات الذكاء الاصطناعي، بحيث تتوازن حرية الوصول مع عدالة العائد.
