د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

أهمية النحاس

استمع إلى المقالة

ظل النحاس لعقود مرتبطاً بالبناء والصناعات القديمة، وخلال سنوات قليلة، أصبح النحاس مادة استراتيجية خاماً تتزاحم عليها الدول، فارتفع الطلب العالمي على النحاس خلال العقد الأخير بنحو 4 في المائة سنوياً، وسط توقعات بأن يتسارع هذا النمو السنوي إلى 6 في المائة بحلول 2035، فما حيثيات ارتفاع الطلب على النحاس؟ وكيف تحول من معدن رخيص إلى سلعة استراتيجية؟

يمكن النظر إلى ما آل إليه النحاس من عدة جوانب؛ أولها ارتباطه بتحولات عديدة، لا سيما التحولات الخضراء، فقد تسارعت مشاريع التحول الأخضر عالمياً - من شبكات الكهرباء الذكية، إلى البطاريات المتقدمة، وإلى المركبات الكهربائية - وكلها تعتمد اعتماداً كثيفاً على النحاس بوصفه أفضل المعادن لنقل الكهرباء بكفاءة، ومع صعود مشاريع الطاقة المتجددة، تضاعف الضغط على النحاس، فكل توربين رياح يحتاج إلى ما يقارب 4.5 طن من النحاس، وكل سيارة كهربائية تحتاج إلى أربعة أضعاف كمية النحاس الموجودة في السيارة التقليدية، وهذا ما دفع وكالات الطاقة إلى التحذير من «فجوة نحاسية» تلوح في الأفق مع مطلع العقد المقبل.

غير أن التحول الأخضر - على ضخامته - لم يعد المحرك الأكبر للطلب، إذ ظهر الذكاء الاصطناعي لاعباً جديداً في الطلب على النحاس؛ ففي غضون عامين فقط، أدت الطفرة في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، وسباق الشركات نحو بناء مراكز بيانات عملاقة، إلى خلق موجة طلب إضافية وغير مسبوقة على النحاس، فمراكز البيانات التي تُعدّ البنية التحتية الأساسية لتشغيل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تحتاج إلى كميات كبيرة جداً من النحاس في شبكات الطاقة، والتوصيلات، وأنظمة التبريد. وتشير دراسات حديثة إلى أن بناء مركز بيانات واحد بقدرة 100 ميغاواط قد يستهلك ما بين 2000 و3000 طن من النحاس، فيما يحتاج كل ميغاواط من القدرة التشغيلية نحو 30 طناً من النحاس، وهو رقم قابل للزيادة مع تضخم قدرات المعالجة.

ويضاف إلى ذلك أن مراكز البيانات نفسها تنمو بمعدل غير مسبوق، فقد تضاعف عدد مراكز البيانات فائقة الحجم عالمياً بين عامي 2018 و2023، بينما ارتفع الاستثمار في بنائها بأكثر من الضعف خلال السنوات الأخيرة، وتقدّر شركة «BHP» أن كمية النحاس المستخدمة في مراكز البيانات سترتفع من نحو 500 ألف طن اليوم، إلى 3 ملايين طن سنوياً بحلول 2050؛ أي بمعدل نمو يفوق 6 أضعاف خلال أقل من ثلاثة عقود.

وما سيخلق أزمة في المستقبل أن الدول القادرة على إنتاج النحاس بكميات تجارية كبيرة، دولٌ محدودة جداً، فعلى الرغم من انتشار خام النحاس جغرافياً، فإن استخراجه اقتصادياً يتركز في دول مثل تشيلي وبيرو والكونغو وزامبيا، ومعظم هذه الدول تواجه تحديات سياسية أو بيئية أو لوجيستية تعيق التوسع السريع في الإنتاج، ومع تزايد الضغط على الطلب، تسارعت التحركات الدولية لتأمين النحاس، فالصين، التي تهيمن على أكثر من نصف القدرة العالمية لصهر النحاس، وتُعدّ أكبر مستهلك عالمي له، تحتفظ بوزن استراتيجي كبير في السوق، فهي لا تتحكم فقط في المعالجة؛ بل في جزء واسع من الاستثمارات في مناجم الكونغو وأميركا اللاتينية، مما يمنحها نفوذاً في سلاسل الإمداد لا ينافسها فيه أحد.

أما الولايات المتحدة، فبدأت تتحرك بقوة لتقليل اعتمادها على الصين، فقد أدرجت النحاس ضمن قائمة المعادن الحرجة، ووقعت اتفاقات استراتيجية مؤخراً مع الكونغو الديمقراطية، تتيح للشركات الأميركية حق أولوية لشراء النحاس والكوبالت، مع تمويل مشروعات لوجيستية؛ مثل تطوير ممر «لوبِيتو» لتسهيل نقل المعادن نحو الموانئ على شاطئ الأطلسي، كما تسعى واشنطن إلى إعادة فتح بعض المناجم المحلية وتعزيز سعة التكرير الداخلي، وقد تصبح الدول المصدّرة للنحاس لاعباً مركزياً في معادلة الأمن الاقتصادي العالمي، مع استمرار محدودية المصادر وزيادة الطلب المتسارعة.

وها هو الذكاء الاصطناعي يغير مرة أخرى التوقعات المستقبلية، فقد زاد تعقيد التحول الأخضر من ناحيتين؛ الأولى المنافسة على المواد الخام وأولاها النحاس، والثانية زيادته للطلب على الطاقة التي لا يمكن أن توفرها مصادر الطاقة النظيفة بالكامل، ومع كل مركز بيانات يُبنى في العالم، تواجه الطاقة النظيفة ضغطاً إضافياً، حتى في المؤتمرات التي تناقش زيادة الطلب على النحاس والطاقة وسلاسل الإمداد، أصبح الحديث عن الذكاء الاصطناعي بديلاً عن الحديث عن المركبات الكهربائية، وللذكاء الاصطناعي ميزة تنافسية في ذلك؛ وهي بعده الاستراتيجي الهائل الذي لا تصح مقارنته مع المركبات الكهربائية.