ليس صحيحاً أن الغياب يعفي من العذاب. القبر لا يحصن الحاكم من أعاصير بلاده. يمكن لجثته أن تتعرض لطعنات كثيرة؛ للشماتة، والسخرية، والإذلال، وفيض الكراهيات. ويمكن أن يصاب القبر بالذعر، وبالإحراج، وبالخوف، وأن يحاول الهرب كمرتكب يبحث عن مخبأ للنجاة من غضب الناس ومحكمة التاريخ.
هذا حدث قبل عام. تردد مدير مكتبه «أبو سليم» في إيقاظه لكنه فعل. الخطب جلل. شاهد على الشاشة عبارة رهيبة؛ «فرار الأسد». لم يصدق حافظ عينيه. كيف يكون أسداً من يفر؟ وبعد دقائق وقعت الفأس في الرأس. قالوا إن طائرة من بلاد ستالين حملت السيد الرئيس مع عائلته وحقائب مثقلة إلى بلاد الثلج والنسيان.
أسعفه «أبو سليم» بكوب من الماء. هذا النبأ يفوق قدرته على الاحتمال. ما أفدح الخسارة. كيف سينظر إلى صدام حسين إذا رتب القدر موعداً بينهما في عالم النهايات؟ تخيل صدام يستيقظ على النبأ، تصوره يطلق ابتسامته الشامتة. سمعه يقول: «هذه مدرسة حافظ الأسد. قلت لكم مراراً ولم تصدقوني. مدرسة عشاق السلطة لا مدرسة أصحاب القضية». خيل إليه أنه سمعه يقول: «قاتل ولداي وحفيدي الأميركيين حتى نفدت ذخائرهم. قاتلوا وقتلوا بعدما طردتهم سوريا الأسد من أراضيها وقدمتهم لقمة للاحتلال».
كل شيء إلا شماتة صدام. يتمتم. لا يمكن إنكار أن حاكم بغداد برع في تدبيج قصته. طالبه جورج بوش الابن بمغادرة العراق مع عائلته فاختار الإقامة في تراب العراق. وقع في الأسر وتحدى سجانيه. حاول القاضي محاكمته فرد بمحاكمة القاضي ومن نصبوا المحكمة. التف الحبل حول عنقه فأطلق على أهل الحبل نظرة احتقار. يتابع. صدام مرتكب كبير لكنه أجاد صوغ حكاية لتتردد على ضفاف دجلة، أو في ذاكرة أنصاره مهما تقلصوا وتضاءلوا.
يعتصره الألم. هذه سوريا الأسد. وإلى الأبد. وخيار سيدها صريح؛ القصر أو القبر. كيف يسقط المؤتمن عليها في خيار السلامة؟ خيار زين العابدين بن علي. يشعر بحرج قاتل. سقط علي عبد الله صالح مضرجاً برصاص الحوثيين. رفض ذل المنفى وفضل إنقاذ سمعة الملاكم. فضل الموت على الحلبة. معمر القذافي رفض الانحناء للعاصفة. قتلوه وتوزع أبناؤه بين قتيل وشريد. كان باستطاعة حسني مبارك أن يستقل طائرة تعمل على خط المنفى. خاف من لسعة التاريخ. تداولته السجون والمحاكم لكنه مات على أرض مصر. لا عزاء للخاسر غير أن يكتب قصته بحبر العناد والمكابرة. عمر قصير أفضل بكثير من ذل طويل.
فاجأت العاصفة سيد القصر وحزب «إلى الأبد». كان الانطباع أن الرجل المتحصن في إدلب غير موعود إلا بنهاية مؤلمة. كانت مخابرات الأسد تبحث عنه، وكانت طائرات بوتين تبحث عنه. وقال محللون إن من عرفته سجون بغداد باسم «أبو محمد الجولاني» سيلقى مصير رفاقه القدامى. أخطأ المحللون.
كانت السنة طويلة ومريرة. جلس أحمد الشرع في قصر الرئاسة على كرسي الأسدين. فجأة فتحت أمامه الأبواب. كأن العالم كان يتحين الفرصة للثأر من سوريا الأسد، كأنه تعب من حروبها ومناوراتها وتحالفاتها. رجل اسمه دونالد ترمب يمد يده في الرياض ويصافح الشرع.
ستسقط الجدران وستنهار السدود. سيدخل الشرع البيت الأبيض في استقبال دافئ. سيدخل أيضاً قصر الكرملين وسيلتقي القيصر الذي منح بشار اللجوء الإنساني. ستهب أوروبا لإعطاء الرئيس الجديد فرصة. وسيظهر الشرع براعة غير عادية. خطاب معتدل ومقنع. سوريا ستنهمك بتضميد جروحها. سوريا أولاً. ولن تكون مصدر خطر على جيرانها وبينهم إسرائيل. استفزازات نتنياهو واعتداءاته لن تدفعه إلى الانزلاق نحو ما يعيق مشروعه.
بعد عام أيقظه «أبو سليم» مجدداً. أسرار عهد الأسد الثاني منشورة على حبال «العربية». رحلة في السيارة نحو الغوطة. حوار شفاف مع المستشارة لونا الشبل يكشف أسلوب الرئيس وارتباكه. لم يحدث أن كان القصر سابقاً بلا أسوار وبلا أسرار. كانت عبارات الرئيس صعبة ومثيرة ومخيفة. عبارات تساعد في فهم الانهيار الكبير الذي ضرب سوريا الأسدين. ضاعف منسوب الإثارة مصير الرئيس الغارق في صمت المنفى. ضاعفه أيضاً مصير المستشارة التي تخطى ظلها في القصر حدود مكتبها. المستشارة التي شُطبت بعدما اتهمت باللعب على خطوط التماس بين كبار اللاعبين على المسرح السوري.
تذكرت عبارات سمعتها يوم كانت المعارضة السورية تقترب من قصر بشار. قصدت وزير الخارجية اللبناني الراحل جان عبيد. سألت الرجل المتحفظ عن بشار فقال: «الله يرحم والده». ولأنه كان يثق بقدرتي على الكتمان قال: «للأسف الإرث أكبر من الوريث... ورث بشار سوريا لاعباً، وها هي تتحول في عهده ملعباً».
وفي تلك الأيام روى لي الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، ما قاله له حكمت الشهابي رئيس أركان الجيش السوري، في عهد الأسد الأب. قال الشهابي: «هذا (بشار) شخص مجنون. سيأخذ سوريا إلى الحرب الأهلية والتقسيم». ويضيف جنبلاط: «قدم لي وصفاً دقيقاً لما فعله (الضابط القريب من بشار) عاطف نجيب مع أطفال درعا، وكيف انتزع أظفارهم واستدعى رؤساء العشائر وهددهم بهتك أعراضهم». وذات يوم سأل جنبلاط بشار لماذا لم يعاقب عاطف نجيب، فكان رده: «لم يتقدم أحد بدعوى ضده». إنه أسلوب بشار.
قبل عام غادر بشار الأسد. سقط نظام الأسدين. سقط جدار الممانعة وتغيرت أحجام اللاعبين في الإقليم. انتقلت المنطقة من «طوفان السنوار» إلى المطالبة بنزع السلاح في غزة ولبنان. تغيرت حدود إيران في الإقليم، ولا بد من الاتصال بالبيت الأبيض لوقف استباحات نتنياهو للخرائط والحدود.
من قبره يواكب الأسد الأول ما حل بسوريا. يواكب فيديوهات الأسد الثاني. أقام بشار نحو ربع قرن. فاضت أوجاع سوريا والتقت بأوجاع لبنان. بحر أحزان وجنازات كثيرة. ذهب زمن الأسدين إلى محكمة التاريخ. قامر الوريث بإرث بحجم بلاد وخسره. ما أصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. الزمن صفحات. وبشار مر من هنا.
