وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

انسحاب.. على الطريقة الروسية

بعد أكثر من شهرين على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن انسحاب جزئي لقواته المساندة لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية تضج بالقاذفات الروسية المنطلقة في مهام حربية والعائدة من جولات قصف دورية لمناطق سيطرة المعارضة. وفيما كان العالم يتوقع أن يستتبع إعلان بوتين تراجع في وتيرة العمليات العسكرية، أفادت وسائل الإعلام الغربية بنبأ عن تعزيز موسكو قاعدة حميميم بسرب من طائرات المساندة القتالية المروحية (هليكوبتر). وفي محيط هذه القاعدة نشرت موسكو، مؤخرًا، بطاريات صواريخ أرض - جو من طراز «إس - 400» مخصصة لحماية الساحل السوري من أي هجوم جوي مفاجئ.
وميدانيًا تواصل موسكو التخفيف من «غربة» جنودها بتحويل البيئة الصحراوية لمواقع تمركزهم في محيط مدينة تدمر، إلى منطقة لا تختلف تقديماتها عن تسهيلات ريفهم السلافي، فافتتحت مطاعم تقدم المأكولات الروسية بأيدي نادلات روسيات، واستقدمت حاوية ضخمة تضم مكتبة من ألفي مؤلف باللغة الروسية..
هل توحي الإجراءات الروسية بقرب انسحاب من سوريا أم «بإقامة» طويلة الأمد؟
بصرف النظر عما تكبدته موسكو من أعـباء عسكرية ومادية في سوريا، من شأن أي انسحاب عسكري قريب أن يوحي بأن الرئيس بوتين يتخلى عن نشر النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، ويسلم بالتالي مصير نظام الرئيس الأسد إلى حليفه العسكري الآخر إيران؛ الأمر الذي قد يطيح بما حصده من شعبية قيصرية في الشارع الروسي بعد الإعلان عن تدخله في سوريا.
هذا على الصعيدين المعنوي والشخصي، أما على الصعيد المصلحي، فإن الرئيس بوتين اليوم أقرب ما يكون لتحقيق أبرز أهداف تدخله العسكري في سوريا: حمل الولايات المتحدة على الاعتراف بشراكة روسيا الأساسية في صياغة القرار الدولي ورعايته، أي بتحولها إلى الدولة العظمى الرديف في القرن الحادي والعشرين.
منذ استعادة السيادة الروسية على شبه جزيرة القرم ورياح المبادرات الخارجية الروسية تجري بما تشتهيه سفن الرئيس بوتين وطائراته. واليوم تهب على سفنه «نسمتان» توحيان بأن فرصة حمل الولايات المتحدة على القبول بنظام «ثنائية» القرار الدولي لم تعد بعيدة:
- الأولى تتمثل بتحسن أسهم المرشح المزاجي لانتخابات الرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، الذي فاجأ الرأي العام الأميركي بتبنيه موقفًا وديًا من روسيا بإعرابه، في خطاب ألقاه في 27 أبريل (نيسان) الماضي، عن «أمله» في تخفيف التوتر مع موسكو وتحسين علاقات واشنطن معها «من موقع قوة» - كما قال -؛ الأمر الذي حمل الرئيس الروسي بوتين على رد التحية بأحسن منها ووصف دونالد ترامب بـ«الشخص الألمعي والموهوب دون شك» واعتباره «القائد المطلق» لمعركة الرئاسة الأميركية.
ربما تندرج تصريحات ترامب في خانة الوعود الانتخابية الطنانة التي تبذل عادة في حملة انتخابات الرئاسة الأميركية... ثم تغفل في البيت الأبيض، (وقد يكون أشهرها تعهد جورج بوش الأب في انتخابات العام 1988 بأن «لا يفرض ضرائب جديدة» على الأميركيين). ولكن ما كشفته حملة الانتخابات الأميركية عن استعداد «المرشح» ترامب لتبني مواقف سياسية «جريئة» على أكثر من صعيد واحد تجعل من غير المستبعد قبول «الرئيس» ترامب بثنائية الزعامة الدولية في عهده، على الرغم من أنه كان المرشح الداعي إلى تكريس زعامة بلاده الأحادية على عالم اليوم.
- الثانية يؤشر عنها تعيين أفيغدور ليبرمان، ذي الأصول الروسية، وزيرًا للدفاع الإسرائيلي في حكومة بنيامين نتنياهو، وهو تعيين لم تخفِ وسائل الإعلام الروسية ترحيبها به، ووصفه بـ«الصديق المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين».
لغاية تدخلها العسكري في سوريا، كانت إسرائيل نقطة ضعف النفوذ الروسي في الشرق الأوسط (مقارنة بالنفوذ الأميركي) فأصبحت اليوم - وربما بفضل معاداة نتنياهو لتعامل الرئيس أوباما مع الملف النووي الإيراني - صنوًا له؛ الأمر الذي يؤكده التنسيق المتزايد بين روسيا وإسرائيل في سوريا و«تعايش» طيرانهما الحربي في أجوائها، ما يسمح بالاستنتاج أن روسيا مقبلة، في عهد بوتين، على فرض توازن قوي جديد في الشرق الأوسط على حساب النفوذين الأميركي والعربي.
أما تبعات هذا السعي البوتيني على الانسحاب من سوريا.. فحدث ولا حرج.